الإدارة وظلم الاخرين - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الإدارة وظلم الاخرين

الادارة والظلم

  نشر في 12 أكتوبر 2016  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

الإدارة وظلم الاخرين

عندما نتكلم عن الإدارة فإننا نتكلم عن الإدارات كافة بجميع تخصصاتها، فلا فرق بين الإدارة المدنية والعسكرية، وبين إدارة محل بقالة او مدرسة ثانوية، وبين إدارة عشرات الأشخاص او المئات منهم. الإدارة التي نتكلم عنها هي إدارة شاملة عامة، وهذه الإدارة يجب ان تكون بعيدة عن عدة صفات سلبية لتكون إدارة ناجحة ومنتجة. وإحدى اهم تلك الصفات السلبية هي صفة الظلم.

الظلم، أما لغة فقد جاء في لسان العرب(1) ((الظلم وضع الشيء في غير موضعه. وأصل الظلم الجور ومجاوزة الحد، ويقال ظلمه يظلمه ظلماً ومظلمة، فالظلم مصدر حقيقي وهو ظالم وظلوم والظلمة هم المانعون أهل الحقوق حقوقهم، والظلامَة ما تُظلمهُ وهي المَظْلمة. وتظالم القوم: ظلم بعضهم بعضاً)) اما اصطلاحاً فقد جاء في المفردات للراغب الاصفهاني(2) ((والظلم عند أهل اللغة وكثيرون أهل العلم: وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة وإما بعدول عن وقته أو مكانه)).

لو تمعنا في تعريف الظلم لغةً واصطلاحاً ستظهر لنا صفةً إيجابيةً على عكس الظلم، وهي صفة العدل، فنستطيع ان نقول ان الإدارة الظالمة ليست عادلة، ونتيجة لذلك فان الإدارة الظالمة ستكون عرضة للفشل. ولكن من خلال متابعة اخبار الإدارات السابقة والحالية، نجد ان الإدارات الظالمة لطالما كانت اعمارها طويلة، رغم انها كانت تتعامل مع الافراد بشكل ظالم، وخير مثالٍ على ذلك هو الفرعون –حاكم مصر في زمن النبي موسى ع– الذي كان ظالماً لبني إسرائيل ورغم ذلك فان هذا الظلم لم يؤثر سلباً على نجاح ادارته.

وعندما نرجع الى القران الكريم نجد الآيات المباركة تدعو الى اتخاذ صفة العدل وجعلها المنهاج والتطبيق العملي في الإدارة، قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرً)) سورة النساء 58، وهنا يبدأ التساؤل، ان كانت صفة الظلم صفة ممقوتة ونتائجها سلبية، وان العدل هو ما يريده الله تعالى منا، فلماذا اذاً عمر الإدارة الظالمة ليس قصيراً؟

قبل الإجابة على هذا التساؤل، علينا ان نعرف أوجه الظلم في احدى الإدارات، وسنختار في هذه المرحلة النقاشية إدارة احدى الدوائر الحكومية، لكون القارئ على دراية واحتكاك مع تلك الإدارات في تعاملاته اليومية، وإنجاز معاملاته في الدوائر الحكومية. وهنا سأختار إدارة دائرة التقاعد، وهذه الدائرة معنية بإنجاز معاملات الموظفين المحالين على التقاعد لغرض استلام رواتبهم واستحقاقاتهم التقاعدية، وهي من الدوائر الخدمية والإنسانية.

أوجه الظلم العامة التي سنناقشها:

1- استغلال السلطة الممنوحة من قبل القانون الى الأشخاص في جميع المراتب الإدارية –الإدارة العليا، والوسطى، والدنيا– بشكل شخصي لا بشكل مهني.

يعمد كثير من أصحاب المناصب والصلاحيات في الدوائر الحكومية الى استغلال تلك السلطة الممنوحة له بشكل مفرط به، فهو من خلال سلطته يكون مستعداً الى محاربة كل شخص يعارضه او يكشف عيوبه او اخطاءه، واحياناً يستغل صاحب المنصب لسلطته في سبيل استفزاز الاخرين من اجل تملقه، يكمن السبب في ذلك الى حالة نفسية يشعر صاحب السلطة من خلال اذلال الاخرين بالمتعة ويشعر ايضاَ بالراحة عندما يشاهدهم وهم يعملون له كجواسيس، ويستمتع ايضاً عندما يمدحوه ويصفوه بصفات الرجل الخارق والشخص الأوحد، وكذلك عندما ينكرون الحق في سبيله ومن اجل ارضائه.

ولعله احياناً أخرى يستفزهم من اجل استغلالهم في استفادة مادية، فهو لا يعاملهم بلين ويتشدد عليهم في سبيل الاستفادة من معارفهم في شراء سلعة بأقل من سعرها، او بجلبهم هدايا مقابل رضاه عنهم، او بأخذ الأموال منهم عنوة.

ومن اسوء حالات الاستفزاز عندما يكون من اجل المتعة الجنسية، وتعد –المتعة الجنسية– من أخطر حالات استغلال السلطة، فهي لا تعد من الامور الاعتيادية بل تتجاوز كل الحدود الإسلامية والإنسانية، فاستغلال السلطة وظروف النساء العاملات من اجل متعة شهوية جنسية هو انحطاط أخلاقي وتجرد من الإنسانية وقيم الديانات السماوية. كل هذه الحالات من الاستغلال هي جزء من عدة اشكال أخرى من استغلال السلطة.

ولكن ما السبب الذي يكمن وراء بقاء هؤلاء المنتفعين من النفوذ في أماكنهم؟ نتابع حتى اخر الموضوع لنجد الجواب لهذا السؤال.

2- تقريب الأشخاص وتسليمهم مناصب إدارية او اعطائهم سلطات مهمة على أساس شخصي لا مهني.

وهنا ينقسم الأشخاص المقربين الى أصحاب النفوذ الى نوعين: اشخاص غير اكفاء، وهؤلاء يتم تقريبهم وتسليمهم سلطات ومهام وصلاحيات مهمة والغرض من ذلك هو السيطرة الكاملة على المفاصل الحيوية في الدائرة الحكومية، واستغلال الدائرة بشكل مثالي وامتصاص الموارد، وهذا النوع من السرقات هو سرقات غير مباشرة، والفائدة من الشخص الغير كفوء هي انه سيتحمل كافة التبعات القانونية عندما يتم اكتشاف اية تلاعبات او سرقات، وهذا سيمد في عمر بقاء المنتفعين في سلطاتهم.

اما النوع الثاني، فانه كفوء ولكنه احتيالي، –وكما يقال: الطيور على اشكالها تقع – وهنا يطمئن كلا الطرفين الى بعضهما ويشكلان حماية لنفسهما، وتعد هذه العلاقة الطردية هي بمثابة شراكة إيجابية، وتتصف بانها اشبه بسلسلة تربط الأشخاص المشتركين فيها، وبمجرد سقوط أحدهم فان الاخرين يكونون عرضة للسقوط معه ايضاً.

اين الظلم والعدل في هذه الحالة؟ وهذا السؤال الثاني الذي نترك اجابته الى ما بعد اكمال الاطلاع على أوجه الظلم الأخرى وحينها سنضع الأجوبة لجميع تساؤلاتنا.

3- محاربة الاكفاء من الموظفين لمنعهم من الوصول الى مناصب عليا، او لعدم اظهار امكانياتهم التي بدورها تفضح ضعف الاخرين والذي بدوره سيكون سبباً في دفعهم عن مناصبهم وصلاحياتهم.

في وجه الظلم المذكور في النقطة السابقة، نجد ان المنتفعين من السلطة يقربون بعض الأشخاص إليهم ولأسباب تم التعرف عليها، ولكن هناك في نفس الوقت محاربة للأشخاص اللذين لا تجتمع فيهم الصفات المطلوبة وهي: عدم الكفاءة، والاحتيال. هؤلاء الأشخاص يتم استبعادهم ومحاربتهم رغم كفاءتهم لسببين رئيسيين هما:

الأول-كونهم نزيهون فانهم سيكونون عائقاً امام الاحتيال والاحتياليين، وهذا سيقطع الطريق امام المنتفعين في تحقيق مآربهم داخل الدائرة الحكومية.

الثاني-كونهم اكفاء فانهم بذلك سيدفعون بغير الاكفاء بعيداً عن منصبهم وصلاحياتهم، وهذا ايضاً سيؤثر سلباً على المنتفعين ويعرض مكانتهم الى التدمير.

لماذا اذاً ينجح المنتفعين في دفع الاكفاء والنزيهين عن أماكنهم رغم انهم اكفاء والمفترض انهم قادرون على الوصول الى المناصب بسهولة؟ والجواب سيأتي لاحقاً.

4- تأخير المعاملات لغرض شخصي، كأن يكون لاستحصال فائدة معينة، او لموقف سابق سبب كرهاً وحقداً على صاحب المعاملة.

الرشوة، الداء الأخطر المتفشي في جسد الدوائر الحكومية، فهي بوابة لجميع أنواع المفاسد، ويستخدمها الموظفون عن طريق عدم انجاز المعاملات ووضع الحجة القانونية لذلك، وفي نفس الوقت هم على دراية بطريقة قانونية أخرى يستطيعون من خلالها انجاز المعاملة دون تعقيد. يختار المراجع –بشكل عام– التخلص من الروتين والتزاحم والاذلال من خلال القبول بالأمر الواقع ودفع الرشوة للموظف لإنجاز معاملته.

احياناً الموضوع هو ثأر وتربص بالآخرين، فالموظف يؤخر معاملة معينة نتيجة لوجود خلاف مع صاحب المعاملة، او لان صاحب المعاملة ينتمي الى قومية او دين او مذهب او بلد لا يحبه الموظف ويكن له الحقد والبغضاء، او بسبب شكوى المراجع عليه او على أحد زملائه، وهذه لا تنتهي احياناً بالمال كما في الرشوة، او تنتهي بعد عناء طويل جداً، واحياناً تنتهي بمشكلة معقدة تأخذ وقتاً طويلاً لحلها.

المطلقات والارامل والنساء الجميلات، كثيراً ما تتوقف معاملاتهن في الدوائر الحكومية مالم يبنين مع الموظف علاقة جنسية، نعم يصل الموظف الى أرخص من هذه المواقف، ودوائرنا الحكومية مملوءة من هذا النموذج الغير مشرف.

اين الأجهزة الرقابية في دوائر الدولة ولماذا لا تضع حدود لهذه الأفعال الفاسدة؟ سؤال واقعي ومهم فهل يعقل ان تكون الأجهزة الرقابية فاسدة ايضاً؟ سنعرف الإجابة قريباً.

5- عدم الاهتمام بالعمل واوقاته، وقضاء أكثر الوقت في اعمال خارجة عن المهام الرئيسة المكلف بها صاحب العمل.

لست من أصحاب النفوذ والمنتفعين، ولست من أصحاب السلطة والصلاحيات، ولا أجد مورداً للاستفادة منه في الدائرة الحكومية، ولست احتك بالمراجعين لأكون مؤثراً واخذ منهم الرشوة وغيرها، فاذاً لماذا اعمل بجد؟ ومن اجل من اعمل بجد؟ ولماذا انا فقط من يحاسب؟ لماذا لا يحاسب فلان وفلان؟ هم يسرقون ويرتشون وانا لا افعل افعالهم فلماذا اذاً احاسب ولا يحاسب غيري؟ هذا بالطبع لسان حال المتسيبين في العمل، فهم يضعون دائماً الاعذار مشيرين بذلك الى غيرهم من المسيئين وانهم أفضل حالاً منهم، وفي حقيقة الامر فانهم لو حصلوا الفرصة لكانوا أكثر فساداً منهم.

هل هؤلاء المتسيبين مؤثرين على عمل الدائرة الحكومية؟ وما مقدار تأثيرهم على مسير العمل؟ وما هو وجه الظلم في ذلك؟

قبل ان نجيب عن أي سؤال تم طرحه انفاً، لنلق نظرة سريعة على أوجه الظلم ونبدأ بربطها مع بعضها ثم نجيب سؤال بعد الاخر.

لنلاحظ العبارات: (استغلال السلطة، تقريب البعض، استبعاد البعض، استخدام الوظيفة لأغراض شخصية، التسيب) هي خلاصة الكلام السابق، فهي مجتمعة تكون شكلاً من اشكال الظلم وعدم العدالة، وهذه بدورها ستكون سبباً لضعف الدائرة الحكومية وسقوطها وتدني مستوياتها الخدمية، ومن المفترض انها ستؤثر على غيرها من الدوائر الحكومية كمرض معدي ينتشر في جسد الدولة دونما تمييز. وهنا سنتناول التساؤل الأول والذي كان: ((ولكن ما السبب الذي يكمن وراء بقاء هؤلاء المنتفعين من النفوذ في أماكنهم؟)).

ولنجيب على هذا السؤال علينا ان نطرح سؤال اخر، وهو من أكثر تواجداً في بنية الدوائر الحكومية، هل هم العدول ام الظلمة؟ سيقول البعض ان نسبة العدول أكثر وهي الإجابة المعلنة دائماً وخاصة بين الموظفين، ولو كانت صحيحة فلماذا نسبة الفساد كبيرة في الدوائر الحكومية؟ واي إجابة ستكون غير مقنعة ما لم نتفق على ان الموظف الساكت عن الفساد هو فاسد ايضاً، وبغض النظر عن العذر الذي يمنعه من محاربة المفسدين. وبذلك فإننا نرجع الى المربع الأول لنقول: بان الإجابة في كون العدول أكثر من الظلمة هي إجابة غير صحيحة.

فان كانت الإجابة هي بان الظلمة هم أكثر من العدول، حينها سيكون العدل شاذاً والظلم شيء طبيعي وبذلك لا توجد اية مشكلة، ولا توجد حاجة الى محاربة الفساد، فالقضاء على الفساد سيصبح حينها فساداً. اذاً ما الإجابة الصحيحة؟

الإجابة الصحيحة هي: الظلمة هم اقل من العدول ولكن العدول أضعف من ان يواجهوا الظلمة، ويعود ذلك الى ان الظلمة يعملون بطرق ملتوية واجرامية يستبيحون فيها كل المحارم للوصول الى مآربهم وغاياتهم وان أدت الى القتل، وتلفيق التهم، والتهديد بإيذاء الاهل والأقارب. وهذا يعني ان العدول ضعفاء بسبب اخلاقياتهم وانسانيتهم، إضافة الى ان أبناء المجتمع غير مهتمين بشكل جماعي بهذه المفاسد التي تحيط بهم، وهم بشكل من الاشكال منتفعون من هذه المفاسد، وهنا يتعقد الموضوع عندما يتداخل فيه دور الأحزاب والعشائر، ويصبح من الصعب اتهام الظلمة وتوجيه الاصابع إليهم، فان لم يحضر الحزب للدفاع عن الظالم جاءت عشيرته، والعشيرة قوانينها غريبة وعجيبة، فهي تدافع عن السارق وتحاسب المسروق منه، ولا تعير الأدلة اية أهمية، وتتكلم بلغة القوة والسلاح والقتل والتنكيل. لذلك نجد ان الظلمة اقوى من العدول وهذا هو السبب وراء بقاء الظلمة لمدة طويلة في مناصبهم وهم يتمتعون بصلاحياتهم وسلطاتهم، وينتفعون منها بشكل كبير ويوزعون هذه المنافع ويتقاسمونها مع احزابهم او عشائرهم بطريقة ما ليؤمنوا لنفسهم الحماية من الشكاوى والاتهامات.

ومن اجل استمرار الظلمة كان عليهم تأمين محيطهم بشكل مناسب، فجعلوا المقربين منهم من جنسهم وممن هم دونهم في الكفاءة، هكذا أصبح الطريق للوصول إليهم واثبات كونهم مفسدين صعباً على العدول والصالحين، والآن نأتي بالسؤال الثاني والذي كان: ((اين الظلم والعدل في هذه الحالة؟)).

عندما يضع بضع اشخاص أنفسهم في داخل قلعة او حصن فانه سيصعب على الاخرين الوصول إليهم بسهولة، وتصبح الحاجة الى قوة كبيرة أكثر من اجل تحطيم اسوار ذلك الحصن، مما يعني ان مصدر الفساد سيكون محمياً وسيصبح لمن يحاربه عدواً، وبذلك سيصبح النزيه والصالح عرضة لمكر المفسدين، وبالطبع فأننا سبق وان قلنا بان المفسدين يعمدون الى أساليب ملتوية واجرامية ولا توجد اية اخلاقيات تمنعهم من ارتكاب الجريمة بحق من يقف بوجههم او يهدد كيانهم، وان المصلحين لا يلجؤون الى محاربة الفساد الا بالطرق القانونية والشرعية الصحيحة ومن دون أي تلفيق او كذب، وهذا سيصعب المهمة جداً امامهم، لذلك سيتعرض كل من الصالحين الناطقين، والصالحين الساكتين الى الظلم في حياتهم اليومية، وهذا بعض ما يتعرضون اليه من الظلم:

1. تشويه سمعتهم، عن طريق استخدام الابواق المأجورة وتحريف المواقف الى ما يجعل من الحمامة غراب، وكثيراً ما يكون التشويه في الجانب الأخلاقي، فيقال فيهم قصص تحول حياتهم الاجتماعية الى حياة صعبة وخاصة عندما تنسج القصص حول العشق والغرام والافتتان بينهم وبين زميلاتهم او بينهن وبين زملائهن، وهذا وفقاً للعرف الاجتماعي قد يترتب عليه مضار كثيرة للطرفين خاصة ان كان أحد الأطراف او كليهما متزوج.

2. تلفيق التهم إليهم، وتستغل طيبة الصالحين في توريطهم في أمور تجعل منهم مذنبين، كاستبدال أوراق ووصولات بغيرها، او جعلهم يوقعون على مستندات فيها تلاعبات مالية، وتعتمد هذه الحالة على مدى طيبة الأشخاص او سذاجتهم.

3. نقل النزاع الى اشكال خارج إطار الدولة، كأن تتحول الى قضية عداء شخصي، وبعدها قضية عشائرية او حزبية، وحسب البنية العشائرية والحزبية فان الأشخاص الصالحين سيضيع حقهم بسهولة، وجلَ ما يقدرون على صنعه هو الرضا بأهون الشرَين، خاصةً إذا علمنا ان العشائرية والحزبية لا تمتثل الا لقوانينها التي تضعها لنفسها والتي هي بواقع الحال متغيرة بتغير قوتهم الى قوة خصومهم، فلا طاقة للصالحين لمناطحة الغول، ولهذا تجدهم يضيعون حقوقهم في مجالس الأحزاب وفي مجالس العشائر خوفاً من تطور الأمور الى القتل العشوائي، فيضطر العاقل الى قبول الحلول وان كانت ظالمة لدفع مفسدة اكبر.

4. شراء ذمم الجهات الرقابية، وهكذا يتم كشف مصادر الصالحين وما يملكونه من ادلة على الفاسدين، وهنا يفقد الصالحين لعنصر المفاجأة، ويفقد السيطرة في التواصل، ولعله يعرض نفسه مستقبلاً للاتهام بإعطاء معلومات كاذبة ومضللة، وايضاً يعرض نفسه للمثول امام القضاء لتوجيهه اتهامات الى اشخاص أبرياء.

هذه النماذج هي ما يجعل من الصالحين مظلومين، بل ويجعلهم دائماً بين المطرقة والسندان، فدينهم واخلاقياتهم من جهة، وأساليب المفسدين ولا انسانيتهم من جهة أخرى. من خلال ما ذكرناه آنفاً ندرك ان الصالحين لا يستطيعون دفع المفسدين عن أماكنهم وان كانوا أكثر كفاءة منهم، وهو جواب السؤال الثالث ((لماذا اذاً ينجح المنتفعين في دفع الاكفاء والنزيهين عن أماكنهم رغم انهم اكفاء والمفترض انهم قادرون على الوصول الى المناصب بسهولة؟)).

هناك قاعدة عسكرية تقول: بان المهاجمين يجب ان يكونوا أكثر من المدافعين، والسبب وراء ذلك، هو ان المدافع يعلم نقاط ضعفه وقوته في الوقت الذي يعرف نقاط ضعف وقوة المهاجم، مما يعطيه القدرة على المناورة وتوجيه الضربات الموجعة للمهاجم، وهذا ما لا يملكه المهاجم ولذلك فانه يعوض عن ذلك بزيادة عدد المهاجمين في سبيل تشتيت المدافعين وارهاقهم ومن ثم تحقيق الانتصار. نفس القاعدة تطبق في حياتنا الاعتيادية، فالصالحون يجب ان يكونوا أكثر عدداً من المفسدين لمحاربتهم، كون المفسدين هم المدافعين عن مراكزهم ونفوذهم والصالحين هم المهاجمين، وهذه الفرضية ان لم تتحقق فان الفساد سيكون المسيطر على مراكز النفوذ والسلطة.

ماذا نحتاج لنقوي الصالحين؟ نحتاج الى أجهزة رقابية تتحقق فيها الشروط المطلوبة من اجل ان تكون القوة المساندة لمن يحارب الفساد والمفسدين. وهذه الشروط هي:

1. ان تكون من الصالحين ومن النخبة.

2. ان تكون من الاكفاء في اختصاصاتهم.

3. ان يمتلكون سلطة وصلاحيات وحماية من قبل الدولة تؤهلهم لمحاسبة أي شخص في أي مكان وفي أي وقت.

4. ان يكون القانون الذي يعملون به قانوناً قوياً وصارماً.

فلو قلنا باننا نمتلك أجهزة رقابية فسنعود الى السؤال الرابع ((اين الأجهزة الرقابية في دوائر الدولة ولماذا لا تضع حدود لهذه الأفعال الفاسدة؟ سؤال واقعي ومهم فهل يعقل ان تكون الأجهزة الرقابية فاسدة ايضاً؟)).

نعم هنالك أجهزة رقابية ولكنها عاجزة عن أداء واجبها بشكل صحيح رغم انها وظفت الأشخاص الصالحين والاكفاء، ولديها قوانين صارمة وواضحة، وتمتلك صلاحيات واسعة. ولمعرفة المشكلة علينا ان نحدد الثوابت والمتغيرات في تركيبة الأجهزة الرقابية. فالقوانين والسلطات من الثوابت اذ انها لا تتغير بشكل عام –ولعله يتم اجراء بعض التعديلات عليها من مدة الى أخرى–، اما الأشخاص فهم من يتغيرون من صالحين الى مفسدين ومن اكفاء الى غير اكفاء.

هذه المشكلة في عدم ضمان إبقاء موظفي الأجهزة الرقابية على حالاتهم من الصلاح والكفاءة، دفعت الدولة الى تكوين جهاز رقابي أكبر لمراقبة الأجهزة الرقابية الأدنى منه، وهكذا نفس المشكلة تتكرر ونفس العلاج يتكرر ايضاً. ومن خلال مشاهدة وجود أكثر من جهاز رقابي فإننا نعلم يقيناً ان بعض موظفي هذه الأجهزة الرقابية أصبحوا عرضة للاتهام او ادخلوا أنفسهم في مواطن الشك، وهذا يوصلنا الى ان الأجهزة الرقابية تلوثت وفسدت بشكل جزئي مما يجعلها هي الطبيب وهي المريض في نفس الوقت، وهكذا فإنها سيصعب عليها تأدية واجبها بشكل مثالي، ولهذا السبب فان الأجهزة الرقابية مع كثرتها الا انها مازالت ضعيفة امام الفساد، ولا تستطيع مجاراة المفسدين لتأثر موظفيها بالواقع الفاسد، لاسيما وانهم ليسوا من كوكب اخر، وان نفس المؤثرات التي يتعرض لها الصالحون في دوائرهم سيتعرضون لها وان كانت بشكل مختلف قليلاً. وخلاصة القول ان الأجهزة الرقابية كلما زادت فان البلد سيذهب باتجاه الهاوية بشكل أسرع، او فان حال البلد سيسوء أكثر، او ان البلد وصل من الفساد ما يجعله غير قادر على العلاج مطلقاً.

بعد كل ذلك وتسليطنا للضوء على الصالحين والفاسدين، فاين هم الفئة الوسطية، وهم عامة الشعب من الذين يمتلكون روحاً صالحة ولكنهم احياناً يميلون الى الفساد لأسباب قاهرة ولكنهم لا يصرون على ذلك. وهؤلاء يتصفون بأنهم يخافون الصعود الى مناصب او امتلاك صلاحيات، ويكتفون ببقائهم في أجواء خاصة بعيدة عن المشاكل، ويكونون ممن يميلون مع كل رأي ويرددون ما يقال لهم، فهم مع القوي، لا نقول بأنهم منافقين، ولكنهم ضعفاء الى درجة انهم يشابهون المنافقين في تصرفاتهم، وهذه الطبقة تمثل النسبة الاكبر في دوائر الدولة، وعليهم يعتمد في أداء الواجبات اليومية، وهم في مجمل الأحوال مأمورين لا امرين، وهذا يعني انهم أدوات ووسائل لإتمام المعاملات في الدائرة الحكومية. ويتصف كثير منهم بأنهم متسيبين في عملهم، ويعود ذلك الى انهم يكملون نقصهم امام مرؤوسيهم في اظهار اهميتهم مع المراجعين البسطاء، فهم عن عمد يجعلون من أنفسهم اغبياء او بطيئين او كثيري الأخطاء، وكل ذلك ليكونوا بعيدين عن الأنظار، ومعذورين لو اشتكى أحد المواطنين عليهم. واسوء من ذلك فان بعضهم يرى ان مخالفته وتسيبه هو الرد المناسب على المفسدين، فهم منتفعون وهو غير منتفع، لذلك فانه يتسيب من باب العدالة، وهم ايضاً يعاقبون المواطن لأنهم يرونه السبب في انتشار الفساد.

وعندما نعود الى السؤال الخامس ((هل هؤلاء المتسيبين مؤثرين على عمل الدائرة الحكومية؟ وما مقدار تأثيرهم على مسير العمل؟ وما هو وجه الظلم في ذلك؟)).

نستطيع ان نقول بأنهم الطبقة الدنيا من طبقات الإدارات في دوائر الدولة، وهي وحسب الواقع الإداري تكون اعرض قاعدة في الهرم والهيكلية الإدارية، وهذا يعني بأنهم مؤثرين في عملهم، وهم دعامة الدولة الرئيسة في إتمام العمل، وإنجاز المعاملات، ولكنهم ليسوا أصحاب قرار، ولا يمتلكون الصفات القيادية، وهم ينتظمون في مجاميع عشوائية منتظرين من يقودهم ويوجههم.

ان المتأثر الوحيد من هذا التسيب هي الدولة وابنائها من المراجعين، ولو رجعنا الى اول المقالة فإننا اتفقنا على ان يكون مثالنا هي دائرة التقاعد، وهي احدى دوائر الدولة الإنسانية والخدمية، ستجد ان مراجعي هذه الدائرة هم موظفون سابقون احيلوا على التقاعد، ورغم ذلك فانهم يعانون الامرين لينجزوا معاملاتهم، فهم كبار في السن او من ذوي الاحتياجات الخاصة، الا انهم يقضون وقتهم في حرارة الشمس خارج البنايات الحكومية في انتظار الموظف المتسيب ليكمل افطاره، وبعد ذلك ليضيع بضع ساعات أخرى في البحث عن اوليات محفوظة بشكل عشوائي، واثناء ذلك يتسامر مع زميله، واخيراً يلبي نداء الصلاة، ويصلي كأنها اخر صلاة له، والمتقاعد في الخارج يفترش التراب ويغطي رأسه بوريقات من معاملته او جريدة بالية او ورق مقوى يجدها مرمية على الأرض، ومع بطل من الماء يشتريه قبل الدخول الى الصحراء الكبرى، وفي ذهنه الف قضية، فهو يشعر تارةً بانه الأمير في قصة الاميرة النائمة، الا ان النائمة هنا هي ضمائر الموظفين، وتارة يذكر شبابه وفتوته وكيف كان والى ما صار عليه من ضعف، تنهار هناك كل الآمال، وتذوب الكرامة وتهون النفس.

يتمنى المتقاعدون لو انهم ماتوا، وأصحاب الاحتياجات الخاصة يتمنون ذلك ضعفين، يتمنى المتقاعدون لو انهم يملكون القوة، ولكنهم غلبوا على امرهم، في موقفٍ كأنهم يستعطون الخير من أناس مستعمرين لا من أبناء بلدهم، يطردون ويهانون، وعندما ينتفض أحدهم يتكالبون عليه كالضباع لينهشوا ما تبقى له من عزة نفسٍ وكرامة. هذه ليست قصة من واقع الخيال، بل هذا هو الواقع المؤلم، وهنا نلمس نتائج ما طرحناه أنفاً، فالظلم تدرج ليصل في تأثيراته على المواطنين، وعلى أبناء البلد، وهذا الظلم مازال ينتفع منه المفسدون وأصحاب المناصب ومن يعينهم، فجيوبهم مفتوحة، وارصدتهم في المصارف مملوءة، والأجهزة الرقابية عاجزة عن العلاج.

وفي خلاصة القول فإننا لن نستطيع حلحلة هذه المشكلة الا من خلال:

1. العودة الى الدين والإنسانية وإصلاح النفس فانه تعالى يقول: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) الرعد 11، وتغيير النفس هي الانطلاقة الصحيحة لتغيير الواقع العام.

2. العمل الصالح رغم كل المعوقات والايمان ان المثيب ليس المخلوق ولا حاجة لنا لمثوبة الانسان بل ان يكون العمل خالصاً لله عز وجل، يقول تعالى: ((وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)) التوبة 105.

3. عدم الخوف من الباطل ومواجهته بشجاعة والايمان بان من كان مع الله كان الله معه، يقول تعالى: ((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)) الطلاق 3،2.

4. الصبر على طريق الحق رغم كل الصعاب، رغم انه خطير وشائك ومظلم، وهو الحال الذي وصفه الرسول الاكرم عليه وعلى أله الصلاة والسلام حينما قال" ((القابض على دينه كالقابض على الجمر)) (3).

نسأل الله عز وجل ان يلهمنا الصبر للسير على طريق الحق وان نكون من الصالحين العاملين على اعانة الضعفاء والمستضعفين وان نؤدي واجبنا تجاه الاخرين بإنسانية. وخير ما نختتم فيه قوله تعالى: ((لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)) البقرة 286.

والحمد لله رب العالمين.

(1) لسان العرب لابن منظور: ١٥ / ٢٢٦.

(2) المفردات في غريب القرآن للراغب الاصفهاني: ٣١٥.

(3) الأمالي، للشيخ الطوسي: ٤٨٤ ـ ٤٨٥ حديث ١٠٦٠، وفيه قال رسول اللّه‏ صلي الله عليه وأله وسلم: ((يأتي على الناس زمان الصابر منهم على دينه كالقابض على الجمر)). وفي عيون المعبود للعظيم آبادي ١١: ٣٣٣: ((يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر)).


  • 2

   نشر في 12 أكتوبر 2016  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا