إنسانية منسية ! .. بقلم : نورا محمد .
نشر في 02 يوليوز 2020 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
وقد تكون الفاجعة الكبرى التي لن يحدث مثلها في تاريخك هي أن تُعاقب على إنسانيتك ! , أن تصبح المُذنب الأوحد في دُنياك دون أن تعي ماذا إقترفت من مصائب كفيلة بأن تقذفك إلى منفى أبدي والعجيب أن من قذفك فيه هو بشري مثلك لا يختلف عنك بشئ سوى بإنسانية لم يذق لها طعماً منذ أن دبت روحه هذه الحياة ! ..
فتصبح عقوبتك هي التشرد , التخبط بين طرقات الحياة التي لم تمهلك وقتاً كافياً حتى تُلملم شتات نفسك وترحل عنها بهدوء وكأن شيئاً لم يكن وتبحث عن حياة أخرى تُقدر ما تُقدمه لها دون خسائر فادحة , ولكنها تصافحت مع من حكموا عليك بالموت وأنت على قيدها ! , والمؤسف أنك لازلت على قيدها بكل ما تحمله من السلام لها ! , فتجدها لا تستحق .. بل تجدك أنت من لا يستحق أن تتشتت خطواتك على أرضها هكذا , فذنبك أنك حملت على عاتقك إنسانية وتلاحمت معها في إنسجام حتى إنصهرت بها ووجدت هي فيك مُستقرها بعد الترحال الطويل ..
تُعاقب على نظراتك التي تفيض بالمحبة لكل ما تقع عينك عليه , حتى وإن كانت أجفانك مطبوقة فحينها تحيا بأحلامك عالم آخر لا ينتفض إلا بالمودة والصفاء , تُعاقب على إنتشالك لبقايا نفس بشرية لم تكن تُدرك أنها لازالت حية تُرزق , فبهذا أنت من حكم على نفسه بالهلاك ! , تُعاقب على رجفة يدك حينما تحاول إنقاذ من تفننت الحياة في نهش إطمئنانه وتمنحه القليل من الأمان الذي هو بمثابة الكنز الثمين بالنسبة له , تُعاقب على زهرة منحتها ولادة جديدة فتتفتح وتنثر جمالها بعد أن كانت على مشارف الذبول , تُعاقب على رؤيتك للإشراق وإنغماس أناملك فيه فيحترق في نفسك الغروب وما يتبعه من دهور الغروب والظلام المُوحش , تُعاقب على همساتك في أذن الصامتين بأن لهم نصيباً من ثرثرة الحياة ولكنهم إكتفوا برونق النبلاء فتُعيد لهم صخب أحاديثهم المؤنسة لفكرهم دون أن ينطقوا بحرف , تُعاقب على كلماتك التي إرتوت بها قلوب كادت أن تنشق عن ضلوعها وتعلن الرحيل لفرط ألمها , وقلبك أنت المذنب الأول أمام محكمة البشرية الظالمة ! .. تٌعاقب كونك إنسان في زمن سادت فيه الأشباه ! ..
ولكنك وبرغم خسارتك التي لن تنتهي إلا بتحررك من قبضة فرضتها عليك الحياة بلا رحمة وهوادة ودون سابق إنذار , وبرغم جهلك بموعد تحررك من الأسر , تتيقن أنك على صواب , وبرغم أنك الضائع في سُبل إيجاد إجابة منطقية لتساؤل أغرقك في بحور الحيرة لدهور : هل يمكن أن أكون أنا المخطئ وبحق ؟! , فتُكابد صراعك الذي نشب بداخل ضلوعك ولا تقوى على السيطرة عليه وإخماد نيرانه , فتاره تنسحب من عنادك وتخضع لحكم الحياة بأنك حقاً من تسبب في كل هذه الجلبة بإرادته , وتاره تثور على إنسحابك هذا وتقف في مواجهتها من جديد رافعاً رآية الصمود حتى وإن كانت الكثرة تغلب شجاعتك حينها , فقد تحالفت كل قوى الحياة ضدك أنت , وحدك , وأنت لا حول لك ولا قوة ولكنك في سبيل المعنى تتألق كل لحظة بقوة من نوع خاص ..
وتأتي اللحظة الحاسمة , لحظة الحقيقة , لحظة الوجود , فمن سيثبت أنه الأحق ؟ , من الأقوى في حُجته ؟ , من يستحق أن يفوز بمعركة سطرها التاريخ منذ الأزل وحتى قيام الساعة ؟ , من تمكن من رفع سلاحه بمنتهى الإقدام أمام عدوه فلا يرهبه ولا يسقط أمام الضربة الأولى ؟ , فكان سلاح الحياة وأنصارها من الخلق يكمن في جهلهم بمعنى قد إتخذه عدوهم سلاحاً له واكتفى به , عدوهم هذا الذي حكمت عليه الحياة بأن يصبح عدواً لكنه لازال واحداً من البشرية أيضاً ! , منهم , فكيف تطرده من بين اقرانه بهذه السهولة وتتخذه عدواً وكأنه الدخيل والمُستعمر الذي لم يأتِ إلا للشر ؟! , فأخذوا يُحاربونه بجهلهم به ويحاربهم هو بإدراكه لــ " القيمة " , القيمة التي إنعدمت قيمتها أمامهم , قيمة الوجود , قيمة النفس , قيمة الإنسانية التي يرونها بعين لم تُخلق لها عيون ! ..
قد تكون معضلة وبحق ! .. قد تكون المأساة الأكبر والأقسى على الإطلاق ! .. قد تكون مُعاناة تُبدد إتزان ذهنك وهدوء قلبك وصفاء كيانك ! .. قد تكون البداية لمعركتك مع الهذيان , أو مع رحلتك خلاله , فبعد أن تشهدها ستجد أن الإستسلام والإنجراف في تيارها هو الحل الوحيد وإن كلفك الأمر الكثير ! ..
ولكن وبرغم هذا أنت لن تخسر شيئاً ! , بل أنت الفائز الأوحد فيها , بعد أن حسبت أنك هالك لا محالة وجدتك الناجي من فيضان العدم ! ..
أن تسير بدروب الحياة ولا تملك فيها سوى " إنسانيتك " , فاعلم أنك قد ملكت كل شئ , واعلم أنك أغنى البشر وإن لم تملك قوت يومك , فبها أنت استحققت أن تحيا وبكل جدارة , فكم ممن دبت أرواحهم الأرض دون أن يكون لوجودهم وجود ! , والسر في فقرهم لإنسانيتهم ..
إذاً ..كن إنسان , لتكن لك الحياة حياة .. ولا تخشى أن تضيع برحلتها عبثاً ..
فمن أدرك إنسانيته الآن , قد عثر على السلاح الذي لن يُهزم وهو يمتلكه .. وإن كان وحده المحارب ..