كيف يجعل منك التعليم آلة..؟!! - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

كيف يجعل منك التعليم آلة..؟!!

  نشر في 28 يونيو 2018 .

يبدأ كل شيء عندما تطأ قدماك الصغيرتان باب المدرسة للمرة الأولى، من هناك يدق أول مسمار في نعشك، وفي انتظار تشييعك إلى مثواك الأخير تسجن داخل أسوار مدرسة استوحى منها Paul Scheuring مخرج مسلسل Prison Break ديكور أحد السجون..

ومع أول نشيد وطني يرفع معه علم البلاد يقص شريط مشروع مكننتك، وتنطلق الأشغال على قدم وساق لجعلك على المقاص الذي يُراد لك..

تصدح كغيرك من الصغار بعبارات ذاك النشيد الذي لم تكن تجيد نطق عباراته فأين أنت من معانيه، في مشهد درامي مخجل لصبية في عمر الزهور، عيونهم مثقلة بالنعاس وظهورهم محنية بحقائب يضاعف وزنها وزنهم، ليجروا بعد ذلك إلى الفصول حيث يبدأ العرض..

يتكدس الصغار في الطاولات المهترئة التي تركها لنا المستعمر جزاه الله عنا -ما يستحق- ويدخل المعلم مجسدا دور "بوعو" الذي كان يهابه الصغار سابقا، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا المعلم قد ذاق الويلات قبل أن يصل إلى ما هو عليه، فإذا كان من المبشرين بالوظيفة العمومية فإنه يعين في إحدى قرى المغرب المنسي دون أدنى اعتبار لمكانته العلمية بل حتى الإنسانية، وذلك حتى تقتل بداخله آخر ذرة من ذرات الثورية التي زرعت به أيام الجامعة، فتتحول وجوه الصغار أمامه من نفوس طاهرة نقية تطلب شيئا من علمه إلى مجرد ألواح خشبية مهمته نقش بعد السطور عليها، فيسب ويشتم ويلعن ولماذا..؟!! لأن أحد الصبية لم يحفظ عن ظهر قلب إحدى القصائد الغبية، والمحفوظات التافهة أو لأنه لم ينجز الواجب المنزلي الذي هو بالأساس من اختصاص ابن الجيران..

أما عن المناهج فحدث ولا حرج، وحسبنا هنا أن نذكر أبرز التجارب العلمية التي يقوم بها الصغار: عملية زرع حبة فاصولياء في قطعة قطن، النفخ في ماء الجير حتى يتعكر، ربط قطبي المولد بالمصباح، وغيرها من التجارب التي تحمل من السذاجة ما يكفي لكبح طاقات الناشئة، وتعطيل حس الإبداع لديهم..

وهكذا تمضي ست سنوات من التعليم الإبتدائي يؤخر فيها إدراج اللغة الفرنسية إلى حدود السنة الثالثة، بصيغة أخرى إلى أن يتجاوز الطفل السن التي تخوله أن يكتسب لغة ثانية إلى جانب لغته الأم بشكل سهل، وبالمقابل يلطخون دماغه بمخلفاتهم، ويكدسونه بمعلومات عن تاريخهم المزيف..

ولا يمنع هاته المرحلة "التعليمية" من أن تكون حاسمة في عملية "المكننة" إلا وجود أساتذة مخلصين، لم يجروا مع السيل الجارف، وظلوا ولا زالوا يقاومون لحمل رسالتهم، فعلمونا حمل القلم، وعلمونا قبل ذلك توجيهه نحو الخير، لكن التضييقات ما لبثت أن طالتهم هم أيضا، فعسرت مهمتهم، وشددت الخناق عليهم..

ننتقل بعد هذا إلى المرحلة الإعدادية، ثلاث سنوات أخرى، مختلفة من حيث الشكل لا من حيث المضمون، ينتقل خلالها الطفل من شقاوته إلى مراهق بتمرده، ويتعلم قول "لا" فيرفع ذاك التلميذ الذي أشبع ضربا في صغره صوته ويده على معلمه، ويشرع في الانتقام..

وفي هاته المؤسسة الإعدادية يتعرف التلميذ على المجلس التأديبي وهو عبارة عن محكمة مصغرة، يهابها الجميع وتروج الشائعات عن أنواع العقاب التي يتعرض لها كل من زجت به تصرفاته -ومخافته للأوامر- إلى هناك، فتكرس الرهبة في النفوس من المثول أمام المحاكم، ويكرس معها الخوف من المجهول..

ثم تأتي المرحلة الثانوية، حيت توضع آخر اللمسات لتصير الماكينة جاهزة..

وتعد هاته المرحلة هي الأكثر تعقيدا من بين كل المراحل السابقة وذلك لأن التعامل مع الأطفال يختلف عن التعامل مع البالغين وذلك نظرا لعدة خصوصيات فعلى سبيل المثال هناك فئة لا تحتاج للمزيد من التعديلات، أفرادها إما مهووسون بكرة القدم، ومستعدون لدفع الغالي والنفيس لللحاق بفرقهم وتشجيعها، وإما مدمنون للمخدرات والتي صارت تجارة قائمة بذاتها داخل كل ثانوية تقريبا وعلى عكس أصحاب الشركات الكبرى حافظت على أثمنتها الرمزية مراعاة لجيب التلميذ الذي يمكنه اقتناؤها بأثمنة رمزية أحيانا..

وهناك فئة أخرى تشربت من التعليم أكثر مما ينبغي لها فصارت تلتهم الكتب المدرسية التهاما،وتدون ما ينطق به المعلم وتحفظه عن ظهر قلب وكأنه وحي يوحى.. لهاته الفئة بالتحديد انشئت المدارس العليا، وذلك لتستنفذ قواها وتجعلها حبيسة المعادلات الرياضية والقوانين الفيزيائية..

أما عن أنذل ما جاءت به المنظومة التعليمية فهو التقسيم المجحف للتلاميذ إلى علميين وأدبيين، في غياب توجيه مناسب يرشدهم إلى ما يناسبهم وما يوافق ميولاتهم..

وبعد أن يختتم التلميذ مسيرته الدراسية بأن يتوج بشهادة الباكالوريا، يجد نفسه محاربا المجهول في الظلام، وهنا تبدأ قصة أخرى..


  • 11

   نشر في 28 يونيو 2018 .

التعليقات

farah Ines منذ 6 سنة
لمقال ابداع
لكن اضن بمجرد وعي التلميذ بهذا لن يصبح كذالك بالاضافة الى ان هناك العديد من المدرسين الذين قابلتهم ملهمون وقد استطاعو ان يشعلو الابداع فينا كتلاميذ
مع احترامي لرايك
0
لمى منذ 6 سنة
لاحظت كثير من الكُتاب يختار تعبير معيّن يسخّره لفكرته، ولديك يا أميمة العكس تمامًا فالكلمات هي التي تبحث عنك! لدرجة أحس كأنك كتبتِ مقالك قطعة واحدة كالوقت الذي قضيناه في قراءته!
أما الفكرة، أعتقد وفيتي، فالتعليم كما فصّلتِ، والمستعمر لا يزال داءً متربعًا على عرش العرب، وإن كنت من السعودية والله إن قلبي ليحزن لحال أمتنا الإسلامية العربية، فألمكم هو ألمنا .
1
أميمة مومن
بارك الله فيك..
كلمات تثلج الصدر.. وتبهج الخاطر..
نسأل الله عز وجل أن ينظر لحال أمتنا بعين الرحمة، ولمن يريد لها الشتات والتفرقة والضياع بعين السخط..
دائماً ما نقول أنا وأصدقائي ذلك نحن فعلاً آلات ، بل آلات مطيعة ، كل ما يسعنى فعله وما نفعله حقاً أننا نجعل من أنفسنا آلات لم يحسن المبرمج برمجتها نتيجة أخطاء في البرمجة ، لذلك يمكن لنا كآلات أن نبدوا أكثر ارتياحا..
مقال جداً جميل .
2
أميمة مومن
لم يفت الأوان بعد.. بإمكاننا تحرير أنفسنا من هاته القيود.. وحتى لو لم يتأتى لنا ذلك.. فعلى الأقل يمكننا إنقاذ الأجيال القادمة منها..
شكر الله لك مرورك من هنا
عمرو يسري منذ 6 سنة
رائع ما نسجته بداكِ أميمة .
وصفٌ دقيقٌ لما يمر به الطالب العربي خلال مراحل التعليم . ذلك النظام الذي خلّفته لنا الحقبة الاستعمارية حتى يتخرّج من خلاله طلاب لا يفقهون شيئاً في الحياة و بالتالي تسهل قيادتهم .
بداية رائعة , بالتوفيق , و في إنتظار كتاباتك القادمة .
2
أميمة مومن
بارك الله فيكم..

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا