أجل الشمس.. هذا الضيف المقيم عندنا في القارة السمراء.. والذي ومن كثرة حضوره لا نقيم له وزنا، تقام لقدومه الاحتفالات هنا في كندا. ويسيل لأجله مداد الشعراء وجدا وعشقا..
أعود لمسح المكان بعيني.. وإتمام" نظرتي الأولى": في الكراسي المقابلة جلس ثلاثة من الشباب، ذوو وسامة عربية ولباس أمريكي، يتحدثون بلكنة فرنسية تشي بإقامة حديثة في "الكيبيك".. يتوسطهم شاب يتكلم فيصغون.. يشير فيأتمرون.. إنه "كبيرهم".
حسنا.. يبدو أن نظرتي الأولى تحولت إلى فضول.. غضضت بصري، فلا حق لي في إعادة تحديق، وصحيفة أعمالي ممتلئة كفاية بالسيئات، أخرجت كتابي وتهيأت لانتظار قد يطول، لولا أن أصوات الشباب المرتفعة كانت تطرق سمعي في إلحاح غريب، وسمع المسنة الجميلة إلى جواري.. والتي ما فتئت تسرق إليهم نظرات خاطفة بين الفينة والأخرى.
تركيزي كان مشتتا بين الكتاب وأصواتهم المتناهية إلى سمعي، “إن استراق السمع أمر يدينه الشرع " فكرت "وصحيفة أعمالي تنوء بأحمالها".
أجاب صوت داخلي "إنه إنصات غير متعمد".. وافقته الرأي وأنا أتحاشى النظر إلى كل الكراسي الشاغرة أمامي.. أتراني "ربيت الكبدة " على هذا الكرسي المقيت الذي سيوردني موارد الهلاك.
المهم.. بدا لي من كلامهم أنهم في انتظار صديق رابع.. لم يشرف بعد اسمه محمد.. الغريب أنه كلما تكرر ذكره.. ضحكوا في استمتاع غريب.. وتلذذوا بإحصاء عيوبه وكشف سوءاته.
جلستهم استفزتني.. لا أدري الأن مأدبتهم الكلامية كانت تمس اسم محمد وهو اسم له قداسة في صدري\ صدورنا أم لأنهم ذكروني بأحوال الأخلاق في بلداننا الإسلامية؟
بضع دقائق مرت قبل أن يأتي محمد.. سلم وجلس.. بدأت مأدبة استهزاء وسخرية تؤذي مسامعي.. ينطق كبيرهم فيضجون بالضحك وكلما ضحكوا زاد هو في الجرعة.. ويبدو أن محمدا تحرج من الرد فلعب دور اللامبالي.. لأني لم أسمع له صوتا.. أفكان ينزف داخليا ويستطعم ألمه؟
ودون سابق إنذار.. وقفت السيدة الجالسة إلى جواري.. لملمت أغراضها.. ووجهت كلامها إلى كبيرهم في غضب واضح:" إن ما تفعله مقرف جدا.. وخطير" وغادرت محتجة.. راقبها وهي تغادر وقد علت محياه ابتسامة صفراء.. فارغة.
والحقيقة أن ردة فعلها لم تفاجئني.. فقد نشأت في مجتمع يدين الاستهزاء بالآخرين، ويدرجه في قائمة "الحكرة", المدارس تعج ببرامج التوعية.. وتدريب الأطفال على المواجهة والرفض.. أو طلب المساعدة، خصوصا بعدما أدت الظاهرة إلى بضع حوادث انتحار في صفوف المراهقين.
ردة فعلي السلبية أيضا لم تفاجئني.. فقد نشأت بدوري في مجتمع يسبح عكس قيمه، ويعج بهاته العادة. فالاستهزاء والضحك على العيوب قد نجده بين أفراد الأسرة الواحدة.. في العمل.. في الشارع...ولأن الذي يترأس حفلات الجلد هاته لا يجد رادعا، يتمادى فيما يظن أنها خفة دم وهي في الأصل خفة عقل, وحين تلوح له بوادر الغضب والإنذار بعاصفة لا تبقي ولا تذر في وجه مخاطبه، يقول جملته المقيتة: “غير كنضحك معاك" وهي خاتمة كلام غالبا ما يكون مؤذيا وجارحا.
جاء دوري.. نهضت متثاقلة وأنا أستحضر جملة لنجيب محفوظ: “لا علاقة لي بنواياك الحسنة حين تكون أفعالك سيئة.. ولا شأن لي بجميل روحك حين يكون لسانك مؤذيا"
هل يمكن أن تعبر الأفعال عن غير النوايا.. بل وتناقضها؟!
هل يمكن أن يكون صاحب الروح الجميلة ذو لسان مؤذ وعفن؟!
ألا يجب أن ينعكس جمال الروح على حسن الخلق؟!
وهل الضحك على عيوب الآخر وتصيد أخطائه صار ماركة مسجلة باسمنا نحن العرب\المسلمين نحن الذين تضج صفحات قرآننا وأحاديث رسولنا بحرمة ذلك؟!
استدرت لألقي نظرة أخيرة على مكاني الشاغر.. وعلى.."محمد".. ولسان حالي يقول:
"لامبالاتك بطولة مزيفة يا محمد. قد تدفع ثمنها عدم تقدير لذاتك.. كن بطلا حقيقيا.. أعلن رفضك.. أو انسحب"
فوزية لهلال
التعليقات
رائعة سيدتي اتمنى لكِ التوفيق دائما .
مقال جميل مكتوب بلغة سلسة و إستخدام أسلوب الحديث مع النفس كان موفقاً .
لدي تساؤل واحد و هو معنى كلمة ( ربيت كبدة ) ؟
بالتوفيق و في إنتظار كتاباتك القادمة .