موعد مع الذكرى
أركض لاهثة من الدوار حيث أبواق السيارات تختلط مع رعشة عصفور وأغنية تتعالى لتراقص الرياح , وصراخ بائع الحلوى وسائق يعقد صفقة مع الأمل علك تكون الراكب الأخير لينطلق الى "البولتكنيك " , دخان يزاحم ندى الصباح ويعكر صفو وردة لا زالت تعيش على قبلات الندى الصباحية , طالبة ترتدي حلتها الخضراء وأخرى تمسك بيدها وقد ارتدت لون السماء تحملان حقائب تفوقهم وزنا وحجما , تذهبان لقبلتهم الأولى في الحلم حيث المقاعد التي تضج بخربشاتهم ,تسرعان حتى لا يعلن الجرس عقابهم المعلق بمزاج المديرة !
أبتسم في الشارع فجأة , فيظن الطفل الذي يفوقني طولا ويكبرني حجما أني أعاكسه , لا يدري بأن الذكريات حين تقتحمنا بغتة تعم الفوضى بالحواس فترانا نبتسم نبكي نغيب عن الوعي المكاني تماما لندخل عالمنا الخاص , لا يعلم ذاك الطفل الذي ما زال في مقتبل العمر , بأني أكبره أعواما وأعوام لا يدري بأني انثى الأحلام تقطف حلما تلو الآخر وبأن الطفولة لن تغادرني حجما ,لكني أنضج منه روحا وحلما وفكرا وحبا , يعبس في وجهي نوعا من الشهامة والرجولة الخليلية , أحاول ان اوقفه لأعطيه حبة شوكلاتة وأربت على كتفه لأقول له : " عمري تسعة عشر حلما ووردة " .
أضحك ليوم كان أكبر همي فيه كيف سأنهي امتحانا بصفحة او اثنتين , و أعظم مصيبة أن أنقص نصف علامة خوفا من أن يكون نصيب الأسد في التفوق لواحدة غيري ! لطالما كنت تلك الطالبة التي تأبى أن ترى من يسبقها بعشر علامة , كنت أتمنى ان أكون رائدة الفرح لأهدي هذا الوطن المكلوم جرعة من السعادة فكان الذي تمنيت لأهدي بحرا يسكنني أمواج الحب ونصرا , أتوق لوقت كانت فيه كلمة "ممتازة" تجعلني أفوق الفراش الحر فرحا .
أمشي ببطء لأنسى كل شيء و أحملق في الشوارع وأتساءل كم أمضينا من العمر ونحن نحبو على أرصفة تسوّد من الكاوتشوك المشتعل سلاحنا الوحيد , و ارض يملؤها الزجاج المهشم جراء مظاهرة ! كم من الهواء المعجون بالغاز المسيل للدموع استنشقنا , وكم من زيتونة شهدنا نحرها ,جيل فتح عينيه على أنقاض الوطن وأشلاء العلم .
نحن الشعب الذي استيقظ على أنين الماضي , عشقنا أماكن لم نزرها ,وما أصعب أن تعشق مكانا لفرط تكرار الحديث عنه ,فجدتك التي تحكي تفاصيل البرتقال في ذاك المكان وشكل التفاح مغموسا برمل معتق بالوطن ومذاق الدبس متصببا من كف العنب ,وسوناتا القمر الذي كان يطل على نافذتها قلبك يرحل ليحط هناك في بيت هرم تفضحه التجاعيد مهما رمم ,بيت يأبى الحداثة وذاك القرميد الأحمر ,فكما نعتاد المكان المكان يعتادنا ويلفظ الغرباء !
وكم هو مؤلم أن يخلع المكان وجهه ويرتدي وجها آخر وهوية أخرى , ويصبح مقهى عاشقين غريبين بعد ان كان وطنا يضم عائلة ! حينها ستقف على أطلال الذكريات , وتنظر لمفتاح صدئ قد ورثته من جدتك التي احتفظت به لستة وستين جرحا .
تشدني الذكريات من خصلة شعري الشقراء لأدخل في دهاليز الذكريات وأمشي لأشتم رائحة الحنين وعبق الحلم , أتمنى لو أن صاعقة تبقيني قتيلة في بوتقة الذكرى , وان لا اعود شاهدة على معارك الطحين الأحمر, فصرخات الثكالى وضجيج نبضهم المكلوم يدمي الدمع !
وصورة جثة الطفل الذي ذهب ليناجي البحر ويبني على الشاطئ الغزاوي قدسا وليعبر الحدود بزورق ورقي تبكي الدمى ومن لا قلب له , فالفرح الفلسطيني حق محرم دوليا .
أتعجب ! تتدحرج دمعة ذكريات من مقلتي فأردها لتموت في عش الحنين فتنطلق الابتسامة , وأتذكر أني في طريقي الى الجامعة وأظل أردد أنا تلك الفتاة التي لا زالت تحلم بعراق المنشية !
و لاجئة تحلم بشقائق النعمان الغزاوية
رغد خميس\ 17-7-2014
التعليقات
تحياتي لك رغد ، بورك حرفك
تبكيني. جميلة جدا سلمت يمناك .