عرف العالم العربي منذ أواخر القرن المنصر اهتماما بمجال التنمية الذاتية، التي ترجم خطأ إلى "التنمية البشرية"، و كان البعض يختزله في "البرمجة اللغوية العصبية"، و يرجع هذا الإهتمام أساسا إلى مؤلفات الدكتور إبراهيم الفقي رحمه الله القصيرة و السهلة و البسيطة - و الرخيصة الثمن بسبب القرصنة - ، و كذلك برامجه التي بدأت أولا بقناة النجاح.
في البداية كان الناس يقتصرون على شراء الكتب و متابعة قناة النجاح، مع حضور نادر للدورات المباشرة التي كانت - و لازالت بعضها - مكلفة مادية بالنسبة لدخل المواطن العربي المتوسط في العموم، إلا أنه مع مرور السنين بدأت تظهر دورات "اقتصادية"، و أصبح في بعض الأحيان من هب و دب يلقي دورات بعد حضوره فقط لدورة أو دورتين كمتلق و ليس كمدرب.
و كسائر الموجات، أصبحت الظاهرة تفقد بريقها، مع هجوم بعض المشايخ عليها، خاصة بعد خروج قانون الجذب للعموم عبر بوابة فيلم "السر"، و مع عدم ظهور نتائج مادية ملموسة على معظم من يتعاطى هذا العالم -أو الفن-، فما هو السبب؟
نشأة التنمية الذاتية :
التنمية الذاتية، هي ليست اختراعا و إنما اكتشافا. بدأت مع الصحفي "نابوليون هيل" بإيعاز و دعم من الميلردير الأمريكي "أندرو كارنيجي" في أوائل القرن الماضي، حيث أنه أمضى أكثر من عشرين سنة من البحث و التحليل لنمذجة الأشخاص الناجحين بعضهم عايشه و بعضهم من السابقين قرأ عنهم، هاته الأبحاث أفرزت إخراجه لكتابته الأول الضخم "قانون النحاح في ستة عشر درسا" و الذي كان أقل شهرة من كتابه الثاني "فكر و إزدد غنا". ثم تلاه بعد ذلك مجموعة من المبادرات أشهرها "البرمجة اللغوية العصبية" مع باندلر و غريندر.
إذن خلاصة القول، فإن التنمية الذاتية هي مجموعة من العلوم و المفاهيم و الفلسفات التي طورت من ملاحظة و نمذجة أشخاص ناجحين، و هنا يكمن مربط الفرس.
أسباب لفشل الأشخاص في تحقيق نتائج من التنمية الذاتية
تعددت التحاليل و الأسباب و العلل، لكن أحد ممن استفدت منهم كثيرا في هذا المجال أبرز نقاطا محددة أحببت أن أذكر ثلاث نقط منها :
1- عدم أخذ المعلومة من المصدر الصحيح :
تصور أن أحدا أراد تعلم طريقة صنع فطيرة بالشكولاته، و تصور أن هذا الشخص توجه إلى بائع المأكولات السريعة -الذي لم يصنع في حياته و لا فطيرة -، في نظركم ما هي فرص احتمال تعلمه إعداد تلك الفطيرة ؟ بالتأكيد فرصه ضعيفة جدا، بل و قد يؤثر تعلمه من هذا الشخص نسيانه لمبادئ كانت قد تفيده في التعلم بسرعة أكبر.
الطريقة الصحيحة، هي التوجه عند طباخ "شاف" مختص في إعداد الفطائر و يصنع المئات منها يوميا و طلب التعلم منه.
إذن خذها قاعدة : يجب أخذ المعلومات من الأشخاص الذين حققوا ما تريد، و أيضا بدؤوا من مرحلتك الحالية.
الشطر الثاني مهم جدا، فمثلا لو كان شخص من عائلة عادية يحلم بتكوين مقاولة ناجحة، فإن أخذه نصائح من صاحب مقاولة من عائلة غنية لن يفيده كثيرا لأن نقطة الإنطلاق ليست مماثلة لوضعيته.
2- معامل التعلم :
يُعَرَّفُ معامل التعلم (من 0 إلى 100) كحاصل ضرب معاملين مهمين و هما : معامل الرغبة في التعلم (من 0 إلى 10) و معامل تقبل التغيير (من 0 إلى 10).
معامل الرغبة في التعلم: في الغالب تجد هذا المعامل مرتفع عند عدد كثير من المقبلين على التعلم، خاصة في البداية، و هو يمثل مدى تحرُّقِ الفرد على التعلم و اكتشاف كل ما هو جديد.
معامل تقبل التغيير: و هنا يصعب الأمر، فلنأخذ مثلا موضوع الحمية، كل شخص سمين يرغب في تخسيس وزنه تكون عنده رغبة كبيرة في تنحيف جسده، لكنه يجد صعوبة في تقبل الحمية و المواظبة على التمارين الرياضية، لاعتياده على منطقة الراحة. فالكل يحلم بالحل السحري الذي لن يتطلب منه أياما و تغييرا في العادات.
إذا لم يمتلك الشخص قيما مرتفعة في كلا الطرفين فإن حاصل ضرب القيمتين يكون منخفضا جدا، و هذا يحول أيضا دون تحقيق النتائج المرجوة.
3- عدم إمضاء الوقت الكافي في المرحلة الثالثة للتعلم :
يقسم سلم التعلم إلى أربع مراحل : مرحلة لا مهارة في اللاوعي - مرحلة لا مهارة في الوعي - مرحلة مهارة في الوعي - مرحلة مهارة في اللاوعي.
أثناء ضبطنا لأي مهارة فإننا نمر بهاته المراحل، و خير مثال على ذلك هو تعلم السياقة، ففي البداية نظن أننا سوف نجيد السياقة من أول محاولة (لا أعرف و لا أعرف أنني لا أعرف)، ثم بعد محاولتين فاشلتين نكتشف أن الأمر لا نجيده (المرحلة الثانية)، بعدها مع المحاولة نفلح في السياقة لكن مع كامل التركيز (الأيام الأولى بعد أخذ رخصة السياقة)، ثم أخيرا إدماج المهارة في اللاوعي لدرجة أننا لا نستطيع أن نصف كيف نسوق السيارة بكل سهولة.
مشكلة المتعليمين أيضا أنهم لا يمضون وقتا كافية في المرحلة الثالثة، حيث أن تطبيقهم بوعي للتعليمات و التمارين و المهارات التي لُقِّنُوها خلال دورات أو قرؤوها في كتاب يقتصر على أيام قليلة، بعدها يصابون إما بالفتور أو بشعور خاطئ بأنهم تمكنوا من المهارة.
أسباب أخرى
من منبر آخر قرأت أيضا أن رفض الأشخاص لتحمل المسؤولية و استسلامهم للأسقاطات و لوم الآخر، هو بمثابة فرامل قوية تقعد المرء في منطقة الراحة، و تجعله يرفض كل شكل من أشكال التعلم و بذل الجهود.
هل التنمية البشرية مجدية أم مجرد دجل ؟
بعد فشل البعض في حصد النتائج من خلال متابعته لدورات في التنمية البشرية، أو قراءته لعشرات الكتب، خرجت موجة تجَرِّمُ هذا العلم و تصفه بالدجل، خاصة من رجال الدين في المشرق العربي، مستعملين مقاييس و معايير يرفضونها عندما يواجههم بها أحد خصوم الإسلام، حين يضع الإسلام في كف و حال المسلمين الآن في كف آخر.
بصفة عامة في المنهج العلمي العقلاني، لا نحكم على تجربة حتى نتأكد من توافر جميع شروطها، و كل شخص يشتكي من التنمية الذاتية -بعد أن جربها - عليه أن يراجع الأسباب الثلاث المذكورة أعلاه، و يجدد بمصداقية فهمه لكل منها، و أن يسأل نفسه هل يشعر بكامل السؤولية عن وضعيته أم أنه مجرد "ضحية" للظروف.
-
ضياء الحق الفلوسطالب علم في مدرسة الحياة. مولع بسباقات الطريق مولع بالبرمجيات و مسابقات البرمجة و التكنولوجيا الحديثة. مولع أيضا بالتدوين والرسم والتصوير.
التعليقات
شكراً على المقال الجميل
و أضيف إلى كلامك نقطتان :
اولا ان : التنمية البشرية في وطننا العربي أصبحت مهنة من لا مهنة له و هذا سبب عدم ظهور نتائجها جيدا في بلادنا لأن الكثير من المدربين لا يعتمون سوى بجني المال
ثانيا ان : الكثير من الناس يظنون ان مجرد ذهابهم لهذه الدورات سيحل مشاكلهم دون بذل جهد
التنمية البشرية جيدة جدا في إعطاء طاقة و سرعة بدئية، لكنها لن تحل لك مشاكل ولن تقدم لك إضافة إذا الفرد لم يعمل و يأخذ بأسباب النجاح
شخصيا استفدت من الدفعة المعنوية التي اكتسبتها في الأيام الأولى من بعض تمارين البرمجة اللغوية و التفكير الإيجابي.. و كنت أطلع دائما على بعض التقنيات و التمارين، بعد ذلك و بعد المرور إلى العمل و الاشتغال اتضح لي أن العمل اليومي و بذل الجهد هو السر في كل شيء
الثقة المفرطة في التنمية البشرية و في المدربين، من طرف المبتدئين غالبا ما تؤدي إلى الخيبة إذا لم تصاحب بالتطبيق و العمل اليومي..