موهاج - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

موهاج

  نشر في 22 أكتوبر 2018 .

هناك لذة خفية في متابعتك لأحدهم -جانبياً- وهو يتحدث. أثناء قيادته للسيارة ربما، او أثناء ترقرق عينيه بالدموع، وتجنبه مواجهة عينيك في عز  الضعف، أو أثناء إنشغاله في شئ هام على المحمول. تشعر بلذة التلصص تلك، وكأنك تسترق السمع على الجيران من الحائط المقابل لسريرك وأنت لم تسع الى ذلك فتُعفى من وخز الضمير وتكتمل المتعة. تمسح عينيك خدّ من بجوارك، تجد ندبة ما، تخمّن ما إذا كانت قديمة أو حديثة، وما هو سببها يا ترى. تحدق في الأنف، تلعب بها بعقلك، ماذا لو كانت أصغر من ذلك، أو لو كانت أطول ولكن أشد حدة. ماذا عن هذا القرط الجميل الذي ترتديه، وما هو حجم الألم المصاحب لثقب تلك الفتحة التي يمر من خلالها القرط، هل شحمة الأذن تلك مصدر إثارة لها مثلما تثيرك. ألعاب صبيانية جداً، تأخذ أجزاء من الثانية، ومصدر متعتها أنها سرية تماماً، كتجربتك لرقص مبتذل أمام مرآة دولابك، وأنت نصف عار في حجرتك الموصدة.

حتى تاتيك لحظة ما، تدرك أنها مختلفة، مختلفة تماما. تنظر لوجه الفتاة التي بجانبك وهي تتحدث للفراغ، فتاة معينة. فيتوقف عقلك عن اللعب، وتعم جوانحك حالة من الإنتباه، ويتحول العقل من اللعب الى التشرّب. إمتصاص تام لما يراه ويسمعه، من ملامح ضحك صاخب الى ذبول نبرات الحزن، بدون أدنى مقاومة. كل إيماءة، كل تتابع لغمضات الجفون أثناء تذكر تلك الفتاة لحدث بعيد. كل عضة تعضها على شفتيها، كوقت مستقطع لتكمل الحديث. كل إطراق يتلو سردها لذكرى قاسية. طريقتها في نفث دخان السيجارة، حيث يتصاعد الدخان لأعلى لا أسفل أو للأمام، لمّها لشعرها، مكوناً خصلاً ناعمة تتراص فوق بعضها في إنسياب كثبان رملية سوداء ثم إنسداله ثانية بلا جدوى.

في تلك اللحظات النادرة، أدرك أن عقلي يمتص تماماً ما يدور، لأن كل شئ أمامي الآن في مكانه وزمانه بدقة متناهية، بترتيب مسبق وكأنها كلمة مرور لباطني، فيعمل خيالي من فوره بكامل عنفوانه كبرنامج كمبيوتر.

منذ سنين عديدة، في لحظة من تلك اللحظات النادرة جداً، مع فتاة واحدة تحديداً، كنت أشعر بما يحدث، فعقلي كان يتشرّب كل تفصيلة، ويضخّم. يعمل خيالي بكامل طاقته، فيمحي هذا الجمال المتضخم كل أثر لأي شئ محيط كقنبلة هيدروجينية. لم أكن أدرك تفسير ذلك. كنت كمن دُسّّ له مخدر في الطعام غدراً لأول مرة، يشعر بأثر ما، ولا يدرك ما السبب، فيضيع الفارق بين الحقيقة والوهم. أمّا الآن، يمكنني الإدعاء أني خبرت التأثير جيداً من قبل. أعرف أنه ذلك المخدر القديم، أدرك مايحدث من تضخيم. ولا يحطّ وعييّ هذا من إعجابي بهذا الجمال الذي أَعمَل خيالي بذلك النشاط، بالعكس زاده إجلالاً وتقديراً أعمق.

هناك شئ ما بشري تماما في الهزائم التاريخية السريعة، فنكسة يونيو ما كان لها أن تكون بهذا  الزخم المُرّ لولا سرعتها. قضى السلطان سليمان القانوني على استقلال المجر تماما في معركة موهاج سنة ١٥٢٦، في ثلاث ساعات كما يقدر المؤرخون كان الجيش المجري قد أنتهى. يقول المجريون حتى الآن "ليس أسوأ من موهاج" تعبيراً عن الحظ السئ. أترين، الهزيمة السريعة تُذكَر حتى الآن لأنها منّا تماماً. ولا أحد يشبّه هزيمته بهزيمة من خسرو الحرب في سنين. فذلك ليس بشري أبداً.

وذلك ما يحدث، تحصّن نفسك وتبني دفاعاتك، ثم. لا تدري ماذا حدث، وما يجب أن تفعل؟

والآن.. أتمسك بكل شئ، أتمسك بكل فرع شجرة في الجوار، وبكل نافذة جار وصديق، لكي أحمي نفسي، لكي أحمي باطن هش خبرته جيداً عبر السنين. أذكّر نفسي بما أعددت به وجداني طويلاً. أقول أن بيت جدي نفسه ماتت فيه الزروع. تلك الخضرة التي نشأت معي هناك، وكنت على يقين من ثباتها، كثبات حوائط البيت التي تشققت، ذهبت. وجفت أصٌص الزرع ببساطة، ورحل جدي نفسه. كنت أظن أنني تشرّبت فحوى ذلك جيداً، وأن الزوال أصبح رفيقاً، كان صعب المراس في البداية فقط. كل تلك الدروع لا تعمل الآن. أرى وجهك من الجانب وأنت تتحدثين الى الأفق، أرى تسجيل عقلي لذلك في حد ذاته هو قصف عميق لمراسم الزوال اللا مبالي التي أعددتها ببطء عنكبوت ناسك، ذلك العقل المسجّل يقول صراحة أن هذا الجمال يستحق التدوين، يستحق التذكّر والإسترجاع بتهلل طفولي. عكس ما اتفقنا عليه تماماً. للأسف.


  • 6

   نشر في 22 أكتوبر 2018 .

التعليقات

مققال جميل وممتع يستحق القراءة
وجدت هنا موضوع وطرح شيق
ورائع اعجبني ورآق لي
شكراً جزيلاً لك .
وبالتوفيق الدائم.
1
لؤي أحمد
شكرا .. تعليقك أسعدني
اه على الوصف للشعور الغامض الذي يصاحبنا مشكور جدا على المقالة الشيقة بوركت.
1
لؤي أحمد
تسلم يا محمود

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا