ذات ليلة انتابني شعور جارف بالندم، تصاعدت حدته مع غوصي أكثر في أحضان الليل، عم الهدوء في الأركان ولم يهدأ صخبه في عقلي، ومع سيطرة الأحلام والكوابيس على المدينة تملكتني التساؤلات القاسية وحاربتني جنود الفكر بضراوة..
لماذا ارتكبت هذا الفعل الشنيع؟!
لماذا يا نورا؟!
لماذا؟!!!
لقد واجهت صعوبة بالغة في بلع أفكاري وتخطي مشاعر الغضب تجاهي أنا! حاولت النوم ولو لساعة واحدة لتتجدد الخلايا وأستجمع قوتي، ولكن لا جدوى من المحاولات!
انتكست في كل مرة أطبق جفوني هربًا من الحسرة واللوم الفتاك، وفي كل مرة أعود للواقع المؤسف بهمسات توبخني:
"لا مجال للنوم يا حمقاء، لقد رن إنذار الخطأ ولا معنى للراحة إلا بإصلاح الموقف"..
كانت مكالمة هاتفية عادية جدًا مع صديقة غالية، استغرقت دقيقة وربما أقل بهدف الاستفسار عن شيء ما، وبينما نتبادل الحديث لاحظت من نبرة صوتها الانشغال، فلم أستكمله بالاتفاق معها على وقت آخر يناسبها، وانتهت المكالمة بلطف ولكن وضعتني في مأزق تأنيب نفسي!
كيف أتحدث إليها في وقت غير ملائم كهذا "وإن كنت لا أعلم"؟!
هل طالها الضيق من إزعاجي؟!
قررت أن أرسل لها اعتذار على اقتحامي المفاجئ و"غير المُتعمد"، وفجأة قررت أن أختفي تمامًا من الكون!
الغريب أنني لا أستحق كل هذا الضجر، الغريب أنني لم أرتكب ذنبًا كما يبدو من حروفي، التقطت أنفاسي، وتأملت الوضع، ثم أدركت أنني وقعت فريسة لحالة "الحساسية" المفرطة! وأن الخوف يقبض على روحي من حين لآخر، وهو الخوف من إيذاء أحدهم دون قصد، أو أن أكون ثقيلة الأثر على قلوب البعض، حتى أنني بدأت في تقليص دائرة معارفي كي لا تهزمني مشاعري غير المتزنة!
أصبحت أراقب كلماتي وأفعالي أكثر، وما أن أنتهي من مجالسة إنسان أعود لأرشيف ذاكرتي وأستعيد شريط الحوار بالكامل، لاقتناص العبارات والنظرات واللمسات التي قد تلحق الضرر به بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فلا أقترب منها مجددًا ولا تراودني الفكرة من الأساس..
يبدو أنها نتيجة رائعة تضمن سلامة العلاقات، ولكنها لا تضمن لي الحياة!
اليوم أصبحت تفاعلاتي مع البشر والأشياء محدودة بأمر من روحي!
وهُنا أيقنت أنني أواجه معضلة حقيقية، خاصةً أن عالمنا لا يرحب بأمثالي!
أصبحت الكلمة تؤرقني وبحق، والمواقف تنزع سلامي وتعوق من مرونة يومي الذي يضج بالمشاهد التي لا أتحملها ولا أملك رفاهية الهرب منها، ولا أعرف.. هل ما أنا عليه الآن هي درجة عالية من الإنسانية كما يقولون أم أنها حالة أكثر تعقيدًا وفتكًا بي؟!
أيقنت أيضًا أنني لست الأولى ولا الأخيرة التي تقتلها مشاعرها، فما أكثرنا!
نحن عُراة الروح..
نحن من تهلكنا نظرة سخرية لمخلوق ولو بدافع المزاح، وإن علت الضحكات حولنا تشتعل داخلنا النيران تكاتفًا معه..
نحن من لا تُغمض لنا عين إن تسرب منا حرف غليظ وإن ملكنا الحق في ذلك، أرواحنا لا تقبله وإن قبله الشر الكامن فينا..
نحن من نموت قهرًا برؤية طفل يبكي، مسنة تُطرد، مسكين يُهان، وإن كان طبع الحياة الدنيا افتراس الآدمية..
نحن من نعطي الأمان والسكينة للجميع، ولا نجد من يتكفل بتهدئة ذعرنا من رقة الأنفاس وهشاشة الإحساس..
الأمر مؤلم ولا يُستهان به أبدًا!!
أنا اليوم أشعر بتسارع نبضي أكثر من قبل، والسبب لا يعود لتذبذب مستوى ضغط الدم مثلًا أو لحالة أنيميا حادة، كل شيء يسير على ما يرام، أنا بخير، أحاول أن أتعايش بكل طاقتي، لا اختلاف كبير في ظاهري، فتاة عشرينية ذات ملامح شبابية وهيئة تتزين بالأنوثة وفكر يتألق بالوعي.. ولكنها "الروح".. ثمة شيء طرأ عليها ولا يمكن وصفه، كما لو أصبحت ريشة في مهب الريح، تتقاذفها أنامل الدنيا هُنا وهُناك دون توقف، وفي النهاية صارت روحي مُستنزفة ولا أقوى الصراخ!
لن أنكر أنني أجاهد لحظات عسيرة، أضعف من مواجهتها بمفردي، وأقوى من الانسحاب منها، وهي الحيرة الكبرى..
كيف أتهرب منها وهي قابعة بروحي؟!
كيف أنسحب من الزمن وأنا جزء منه؟!
وأين الملاذ من ضوضائي غير المسموعة؟!
يا لتقلبات النفس! أنين آهات، ووحدنا من يختنق بها!
هل أخبركم بسر؟ أو دعابة لذيذة إن أردتم وصفها، فهي فضفضة روح ترتجف وليس عليها حرج..
اليوم ونحن على أعتاب الشتاء، يتسابق البشر لشراء الأصواف والسترات الجلدية على أحدث موضة ومن أشهر البراندات، لتدفئة أجسادهم من موجة البرد وتحذيرات الأرصاد وبالطبع التفاخر بالقشرة البالية، ولكن.. ماذا عن أصحاب الأعماق المتجمدة؟! ومن أين يمكننا شراء ما يستر دواخلنا المكشوفة؟!
نعم، أنا أشعر ببرودة الأجواء من الداخل أكثر من أطرافي المُغطاة بالجوارب! ثمة أمطار تهطل على روحي مع كل قطرة تمهد الطريق لسيل قادم، ومع كل نسمة هواء باردة تضرب الوجوه في السابعة صباحًا تطولني نسمات مثلها وإن كنت منكمشة تحت الغطاء في غرفتي المغلقة بالضبة والمفتاح!
روحي الآن متلهفة لشعاع ضوء ساخن يمنحها القليل من الاستقرار، تلك الغيوم لا تدفئني، بل تُبعثرني وتشعرني بالضياع، غياب الحرارة يمرضني وإن كنت من عشاق صوت فيروز وفي الخلفية جبال من الثلوج، ولكن الحقيقة أن أعماقي تتغنى على ألحان العندليب: "إني أتنفس تحت الماء.. إني أغرق!"..
نكتة سخيفة أن أملك عشرات المعاطف المتراكمة في خزانتي وأفتقر لما يرتديه كياني لحمايته من عواصف التأثر! على الرغم أنني كائن شتوي "نوفمبرية" بالمستندات ولكني أشعر باغترابي.. وأرتعش!
تعاطفت معي وتريد مواساتي ولا تملك كلمات، لا عليك.. فقد أردت البوح وحسب..
الأزمة كبيرة، والأدلة حاضرة..
أظهر بكامل أناقتي وابتسامتي وأملي ونجاحي، وخلف الضلوع أنتفض حزنًا على عقاب طفلة لكسرها كوب وهي تلهو ولو كانت على المريخ!
أتضامن معها دون أن أعرفها.. هل تفهم مأساتي؟!
تهلكني الرغبة المُلحة في البكاء، وأخشى أن أستسلم لدموعي فتلتهب ألسنة الناس في مناداتي بـ "الخايبة" أو صاحبة القلب الضعيف!
ولكني أمارس حقي المشروع، أمارس إنسانيتي.. فهل أصبح البكاء جريمة ووصمة عار؟!
أتذكر المرات التي انقلب مزاجي فيها رأسًا على عقب بعد أن صادفت قطة تطلب شربة ماء أو تتذلل مقابل قطعة خبز مبللة من المارة دون الرحمة بها، شعرت بمدى عجزها وهوان روحها، وربما روحي أنا أيضًا..
حينها طعنت قلبي بشراسة تأديبًا له على شعوره الفائض ليكف عن تعذيبي بهذا الشكل..
لست وحدي.. أعلم أنني لست وحدي الذي يشعر على هذا الكوكب المثير للشفقة، لست وحدي الذي يشعر ولكن شعوره يتفاقم ليتخطى الحدود، فيحاربني كما تنقلب مناعة الجسم عليه في بعض الأحيان وتقاتله هو بدلًا من مقاتلة الميكروبات والفيروسات المميتة، وهو ما يحدث معي الآن، وعزائي أنه في مكان ما على الكرة الأرضية من يحيا بالمصير ذاته!
رسالة إلينا نحن أصحاب القضية..
صحيح أننا نخرج للعالم بمشاعر عارية وأفئدة تعتصر وعقول تنصهر بالتفاصيل.. ولكننا أبطال من طراز فريد، نقاوم العذاب بعذاب أشد!
أتفهم أن الكون لا يليق بنا، وأن قرار الاحتكاك بالبشرية موت بطيء، ولكن يكفي أننا نقاتل من أجل الحفاظ على فطرتنا في عالم ملوث والإنسان فيه لا يهم، مريض، جائع، حزين، مفتقد الطمأنينة، لا يهم!
نحن في عالم تحكمه الماديات، عالم جامد لا يشعر من الأساس.. فكيف نلوم أنفسنا على طهرنا؟!
الحمد لله على نعمة الاحساس، ونعمة الرأفة والفطرة السليمة..
وشكرًا لنا على حربنا.. وإن كانت غير متكافئة الأطراف.