الأماكن تغيّرت، الوجوه تبدّلت، والأحرف تلعثمت، أتحدث الإنكليزية بلكنة غبيّة باردة، وكأن صوتي بلا لسان..
إنها الغربة.. تلك النغزة التي تنتابني، كلما أبحرت في صفحات الذكريات، واعتليت موجة الحنين.. للوطن، للأحبة وللأيام القديمة.. لتعيدني إلى حرماني الأول، ودندنات زمن توالت، تتركني باكيةً أحلامي التي تناثرت على جنبات الطريق، وروحي التي سكنت الردهات.
هي إحساس " اللا انتماء ".. وما أصعب أن تبق معلقاً، بين الجاذبية لأرض لا تنتمي إليها وبين التحليق نحو سماء لا تظلل موطنك.
في غربتي .. ومع تباشير الصباح، احتفل بفنجان قهوة يراقص عقلي، ويدغدغ مزاجي، لأعيش هوساً مؤقتاً، يعزف لحناً مميزا،ً ويزيّن طاولة صغيرة في شرفة تطلّ على حديقة بكل ألوان الدنيا، لأبدأ النهار بصحبة معشوقتي السمراء، التي تكتم أسراري وتخفف عنائي.
وددنا اليوم أن نتبادل الأدوار، وأنصتُ لها، لتتحدث :
أجمل أوقات طفولتكِ، كانت الحياة التي لا تتجاوز طرفي الحارة، والشعور بالفرح عند زيارة من تحبين، حيث لا يقرع رأسكِ صداع ولا تدرين ماهو التفكير.. أروع لحظات السعادة كانت حجر أمكِ الدافىء الذي يغمرك بتحنان، وصوت أبيكِ منادياً باسمك..
قهوتي.. تذكّرني برحيق الأيام التي غابت منذ سنوات وسنوات، وتلك الشوارع التي داعبت خطواتنا حتى كبرنا، تنقش صوراً عطشى، لمشوار عمر مضى، لسهراتنا المضيئة، والنسمات التي حملت كلماتنا بخفّة كلما التقينا، ، وتسافر بلهفتي لأعانق أنواء قلوبهم، لكنني لا أدرك العناق، وألوذ بالصمت..
قهوتي وما أدراك ما قهوتي.. حين وقفتْ أمام لوحة، تتأمل المواعيد التي تم تأجيلها، والأماكن والوجوه التي حرمت منها، والبهجة التي فارقتها ولم تروِ تفاصيلها بعد.. عندما بخلت الدنيا بالحب وابتساماته، وسرقت راحة البال وضحكاته، وتهاوت سطور الحكايات.
أمسكت يد الفنجان، وتنهيدة أطبقت شفاهي، تناولت القهوة رشفة رشفة، وبُحتُ لها برقيق أماني تطوّق الغمام، تساءلت :
إلى متى سنظلّ مغتربين متعبين.. ؟؟
أيمكن جمع شتاتنا من جديد، بعد أن باعدت بيننا الأقدار!!
نعم..أشتاقهم، وفراغ المكان من عطرهم لا ينوب عنه المسك والعنبر، وتلك الطبيعة الخلّابة، والحضارة الصامتة المليئة بالضجيج لا تعوّض لمسة، أو غمرة، أو يداً تكفكف دمعتي.
عواصف السّنون الأخيرة، جعلتني في حالة ضياع، ولم يعد هناك وقت للانتظار، فالبكاء والتحسّر لا محل لهما من الإعراب.. وقد آن أن.. ألملم بعثرة أجزائي، وأبارك بزوغ الفجر، أغنّي لكل نسمة صباحية تداعبني، أَمتنّ للنعم التي رزقني الله، وأحتضن الواقع كي أعيش اللحظة، فلا خوف من قادم أو مجهول .. سأزرع الورود، أكتب الأبيات، امسح قطرة دمع، اصنع عِلماً ، لأكون إنساناً باقتدار.. سأرسم الأمنيات بكل الألوان، لعلّ تلك الأوقات التي ودّعتها بقلب مثقل تعود أنقى واجمل، وتكتمل فصول السعادة بلقاء الأحباء على تراب وطن معافى.. سأمسك بخيوط الفرح، لالتقط ذاك الوميض في ربوع المسافات البعيدة، وأتنشّق عبق الياسمين الدمشقيّ .. لربّما أبلغ في الحُلم قَدَراً.
" عندما تقرّر أن تبدأ الرحلة.. سيظهر الطريق "
-
هالة سيراجيمهتمة بالمقالات الطبية و الأدبية
التعليقات
جميعنا جربنا مذاق الغربه والله ولاكن لي نصيحه لك يا اختي { إجعلي الأمل يتسرب في قلبك وكوني واثقة بالله تعالى }
والله كريم ♡