لأنّه لا يعقل أن أغادر الدنيا دون أن ألتقي أمّها، كان لا بدّ لستّينيّ مثلي أن يزور مصر. هكذا، كانت زيارتي لهذا البلد تصحيحا لوضع غيرمنطقي. والحقيقة أنّ رغبتي في زيارة أم الدّنيا لا تعود فقط إلى الأسباب التي يشترك فيها الجميع، أقصد زيارة الأهرامات ومتاحف القاهرة ودور الفنانين والأدباء والمقاهي التي ارتبطت بأسمائهم وآثار الفراعنة في الأقصر وأسوان. ولا إلى صداقتي التي ارتقت إلى مرتبة الأخوّة مع الدّكتور حازم حسين عباس، أخي الذي لم تلده لي أمّي، حتى غدوت أناديه حزّوم "حاف". سبب إصراري على زيارة مصر هو قناعتي بأنّ لأهلي في الجريد أصولا صعيدية. فملامح الوجوه وأنواع اللباس التقليدي والطقوس الدينية والمعمار والأدب الشعبي ترشح كلّها بمؤشرات ترجّح فرضيّتي. سافرت إلى هناك كمن يتقفى آثار أسلافه. إلى ذلك، فنحن في تونس ابتُلِينا بحب مصر من قديم الزمان. ولم أصادف تونسيا يتساءل كيف يُشفَى من حبّ مصر؟
فتونس وهبت لمصر خيرة أبنائها، ومصر احتضنتهم وتبّنتهم حتى أينعت فيها مواهبهم وتدفّق عطاؤهم. يكفي أن أذكر ابن خلدون وابن منظور ومحمد لخضر حسين أوّل من ارتقى إلى إمامة الأزهر الشريف من خارج الديار المصرية. وهل يمكن ألاّ أذكر في هذا المقام الشاعر والصحفي محمود بيرم التونسي الذي غنت له أم كلثوم قصائد عديدة. وغير هؤلاء كثير...
نبتدي منين الحكاية؟
أنا حتعب، حتعب أنا...
وقفت على ضفّة النيل أكاد أنحني لأكرع جرعة تحلّي صوتي وتذهب عنه البحّة عملا بفكرة ورثتها عن أمّي التي كم أكّدت لي أنّ عذوبة أصوات المطربين المصريين تعود إلى كونهم شربوا من النيل. لكن ما فائدة ذلك في هذا العمر؟ أفكّر جدّيا في ملء قارورة من النيل أرشّها على قبرها. وأسقي منها العصافير التي تستريح عليه، فتغدو أصواتها أكثر عذوبة. سيدي يفضل ماء زمزم. ولكنّه لن يستهجن حركتي كعادته في التنازل عن قناعاته كلمّا تعلّق الأمر بالوالدة... أعرف أنّ نيل القاهرة ليس كنيل البوادي والصعيد، مع أنّ الماء واحد. الأوّل صناعي تجاري سياحي أما الثاني فحكاية أخرى لا يمكن اختزالها في آهات الفلّاحين وغناء الصبايا.
من أين نزل ذلك الخشوع العميق على علماني مثلي وأنا داخل قاعة الصلاة في مسجد سيدنا الحسين؟ هل هو جلال العمارة الفاطمية أم عذوبة صوت المؤذّن الذي يتردد في سماء الطاهرة؟
حبّ مصر هو جين الهوية المصرية والأوكسجين الذي يتنفسّه المصريون، إلى حدّ يفقدهم الموضوعية ويجعلهم لا يرون عيوب بلدهم ولا يقبلون فيها خدشا بسيطا. تقول لسائق التاكسي المدينة تهرّمت كثيرا، فيبدو كالمتفاجئ ويعقّب على ملاحظتك بأنّ العمارات مؤسّسة جيدا ولا يُخشى عليها من السقوط. وقد يختم تعقيبه ب"تحيا مصر" و"مصر هي أمّ الدنيا".
ككلّ العواصم الكبرى في العالم، لا تخلو مصر، أعني القاهرة، من عيوب. لكنّها تظلّ مع ذلك ساحرة وفاتنة. بل ربّما كانت عيوبها تحديدا مصدر سحرها وفتنتها. فالمصري لبق كلمنجي، صعب المراس في الجدل والمحاججة، يروق له أن يقود النقاش ويوجّهه في الاتجاه الذي يريد، ولا ينساق وراءك في ما تفتحه من مسارب للحديث. إيّاك أن تقول له مثلا "هناك فرق بين حبّ الوطن والوطنية. وليس يكفي أن تحبّ وطنك كي تكون وطنيا. لأنّ الوطنية لا تستوي إلاّ متى تجسّدت في السلوك ولم تبق حبيسة الخطاب العاطفي." سينظر إليك بريبة وسيرى في كلامك تبطينا. والمصري إلى ذلك حذر، تلقي عليه سؤالا، فيجيبك بسؤال.
إذا ركبت المواصلات، عليك أن تضع قلبك في كفّ حتى لا يقع منك وتمسك كفنك في الكفّ الأخرى. استخدام المنبهات هنا لا علاقة له بلفت الانتباه أو التحذير. هو جوقة جماعية كما العصافير الضاجة في غابة كثيفة. هو نوع من التسلية الوطنية.
لمّا أخبرت حزّوم أنّني حجزت غرفة بفندق يفتح على ميدان طلعت حرب قريبا من مقهى ريش الذي تحلّيه صور مشاهير مصر ممّن كانوا يتردّدون عليه. أم كلثوم وأحمد رامي ويوسف وهبي ورشدي إباضة وأمل دنقل وصلاح جاهين ونجيب محفوظ واسماعيل ياسين وعبد المنعم إبراهيم وتوفيق الدقن ومحمود المليجي، تحفّظ على واقعيّة ذلك وقال إنّها أداة تسويقية لا غير يستخدمها كثير من أصحاب المطاعم لاستدراج الحرفاء. لم أرغب في الإصرار على أنّ صاحب المقهى يكون قد أهدى حرفاءه رغم كلّ شيء حلما جميلا.
وهو يناولني بطاقته البنكية وورقة دوّن عليها كود البطاقة، قال لي حزوم: "لو كان بإيدي كنت سبقتك للقاهرة عشان أغسلّك شوارعها". داريت اضطرابي أمام نبله وغيرتي من فصاحته بإغاضته أنّ غرفتي تفتح على عمارة يعقوبيان.
غسل لي القاهرة بدلا عن حزّوم، أبو محمّد سائق تاكسي. وسائقو التاكسي هنا إمّا حرامية أو مثقفون وطيبون. لا يوجد عندهم صنف ثالث. كان أبو محمّد لا يفوّت معلما دون أن يعطيني حوله بسطة ضافية وأنا مندهش بسعة ثقافته ومعجب باعتداده ببلده. حدّثني عن قلعة صلاح الدين وعن سور مجرى العيون الذي ينقل إليها الماء من النيل وعن مسجد ابن طولون وعن هدم السيسي للمقابر ونقل سكّانها إلى أحياء جديدة، وعن واقعة إبادة محمد علي لأربعمائة من أعيان المماليك بعد أن استدرجهم إلى القلعة وأوقعهم في كمين بداخله، وعن الدّماء التي جرت أنهارا وغمرت الأحياء المحيطة بالقلعة فسمّيت المنطقة منذ تلك الواقعة بالدّرب الأحمر.
قال لي أبو محمد وهو يركن التاكسي أمام الفندق أنّ القاهرة سميت هكذا لأنها بنيت تحت نجمة تعرف بالقاهرة. ولذلك جرى على ألسنة الناس القول بوجود قاهرتين: قاهرة في السماء وقاهرة في الأرض.
لمّا انصرف أبو محمد عاتبتني زوجتي على عدم طلبي لرقمه حتى لا نتحرّك إلاّ معه خلال بقية إقامتنا بالقاهرة. فشرحت لها أنّني لا أحبّ أن يحجب عني أبو محمّد بقية القاهريين.
أغلب آثار القاهرة محضونة بأحياء شعبية وفقيرة. قلعة محمد على ومتحف الحضارة المصرية والأهرامات والفسطاط وسيدنا الحسين والسيدة زينب وقصر عابدين وغيرها... تشكّل الأحياء الشعبية حول الآثار طوقا يمنحها روحها المصرية. الآثار بالنسبة لسكّان تلك الأحياء إرث تركه الأجداد منه يعيشون ويتكسّبون. وبمرور الوقت، تشكّل نسيج واسع ومعقّد من المصالح الاقتصادية والمعاملات الاجتماعية، وصار أمرا واقعا خارجا عن سيطرة الدولة رغم أو ربما بسبب المشاركة النشطة لأصناف مختلفة من أعوان الدولة وموظفيها في هذا النسيج واستفادتهم منه. وسيكون من الصعب المساس بهذا النسيج من المصالح والمعاملات في إطار خطة رسمية لمراجعة سياسة الآثار وأشكال تثمينها والاستثمار فيها والاستفادة منها بشكل أكثر شفافية واستدامة، دون كلفة اقتصادية واجتماعية باهضة.
هذا فضلا عن أنّ كلفة تهيئة هذه المعالم وتعهدها بالصيانة تفوق إمكانيات أيّ دولة مهما عظم شأنها. والكل يعلم كم التاعت مصر من نهب الدول الأجنبية وخبرت أنّها لا تعرض مساعداتها لوجه الله.
ونحن نتمشى باتجاه ميدان التحرير لنسهر بعيدا عن رطوبة الغرفة ونعبّ من نسيم النيل، وقفت أتصفّح كتابا بعنوان: "لماذا يحبّ الرجال العاهرة؟" ولكنّ زوجتي التي استهجنت العنوان افتكّته من يدي فاقتنيت ترجمة مصرية ل"سيكولوجيا الجماهير"، يقينا مني أنّ قراءة هذا الكتاب في السّاهرة وفي ميدان التحرير بالذات حيث تجسدت سيكولوجيا الجماهير أيام الثورة المصرية، ستعطي لكتاب غوستاف لوبون أجنحة جديدة.
ضياء وأماني يطلقان ذلك النيزك المشع في سماء ميدان التحرير مزهوين بمهارتهما أمام الأطفال المنتشرين على "النچيلة". ما أروع الأطفال في عفويتهم وما أسرع عندهم التعارف وعقد الصداقات. عشب ميدان التحرير، هذا الذي كان شاهدا على اعتصام الثورة المصرية، يشهد الآن على دموع تلك البنت القاهرية ذات التسع سنوات وهي تودّع أماني: "ح توحشني أوي يا أماني". محمود ذو السبع سنوات يجري نحوي بقدميه الحافيتين رافعا جلابيته حتى لا تعيقه عن العدو ويقف أمامي يرجوني أن أترك ضياء يلعب معه أكثر... يا الله على جمال ذلك الصبي وعلى خفة روحه. بشرة قمحية وعينان واسعتان صافيتان على فم صغير تشع من وراءه أسنان كالثلج في بياضه. لمحمود كاريزما عجيبة جعلته يخترق قلبي. وحتى لا يحس بقسوتي سألته: "خلاص الوقت متأخر. هو أنت ما عندكش مدرسة بكرة الصبح؟"، "لا يا عمي احنا من السودان. وموش ح يبقى فيه مدارس قبل ما تهدأ الحرب"... تلوّح أماني بالتحية نحو بنت أخرى وتخبرني أنّها سورية لجأت أسرتها إلى القاهرة بسبب الحرب.
ونحن نخطو في طريق عودتنا إلى غرفة الفندق، تصلنا أصوات حفل يقام في حديقة الجامعة الأمريكية. ولكنّ هتافات شباب الطلبة تفاعلا مع موسيقى الرّوك أند رول لا تغطّي على أصوات البنتين المصرية والسورية والفتى محمود السوداني
ذهبت إلى مصر أبحث عن وجه المصري الضاحك في وجه كلّ شيء ورغم كلّ شيء، فوجدت شكاوى الفلاّح الفصيح على كل لسان.
وشكاوى الفلاح الفصيح قصة من الأدب الفرعوني عُثِر على نصها كاملا غير منقوص مدوّنا في بردية. تروي القصة حكاية فلاح فقير تعرّض إلى ظلم واحد من الأعيان ضربه وافتكّ منه حميره ومحصوله. لجأ المسكين إلى الملك فرعون شاكيا. فأبهره بفصاحة لسانه. لكنّ فرعون تعمّد تجاهله حتى يستمرّ في كلامه المرصع بالفلسفة والحِكَمِ عن العدل والظلم وأسباب دوام العمران. أمر فرعون بتدوين كل كلمة تصدر عن الفلاح عندما يعرض شكاويه، حتى يئس المسكين وهدّد بالانتحار. حينها أنصفه فرعون واقتص له من ظالمه. لا أذكر٠ إن كان خيالي صوّر لي أنّ الحكام الفراعنة اتخذوا من شكاوى الفلاح الفصيح دستورا لدولتهم، أم أنّ ذلك حصل فعلا...
ذهبت إلى مصر، أتقفّى ملامح وجه أبي في وجوه الصعايدة القمحية، فأسرتني متاحف القاهرة وميادينها وصخبها.
أعدّ الأيام المتبقية لي في مصر وأدرك أنّني لن أرى الصعيد، فيغمرني الحنين إلى مصر قبل أن أغادرها وأبدا التخطيط لرحلتي القادمة إلى الصعيد.