مملكة قيدار تلفيق الوهم وتورخة الملفق
نشر في 18 ديسمبر 2016 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
حسناً، ظهرت في الآونة الأخيرة اهتمامات واصوات متعالية تتحدث تارة عن (حضارة) اسمها حضارة النبط أو الأنباط، وتارة أخرى عن مملكة اسمها مملكة (قيدار).. والهدف المشترك من الفكرتين هو إثبات ثنائية (عرب الشمال وعرب الجنوب).. وهي الثنائية الموهومة والمختلقة والتي لا أساس علمي يدعمها حتى اليوم، والتي تنسب العرب الى فرعين أو سلالتين جنوبية (قحطانية) وشمالية (عدنانية).
تتضح هذه المشكلة، في كتابات عديدة بدأت تحتل مكانها في النقاشات التاريخية مؤخراً، وكمثال فقد اخترت أن اضمن مقالتي هذه، ما كتبه أحدهم بأنه (تاريخ القبائل الاسماعلية).
فلنقرأ أولاً ماذا تقول هذه النظرية، ثم نرى ما مدى حقيقة الأمر.
(1)
تاريخ القبائل الاسماعيلية في شمال الجزيرة العربية:
قبائل قيدار الإسماعيلية قبائل شمالية تؤكد النصوص التاريخية والباحثين بأن مركزهم مملكة أدوماتو القيدارية (دومة الجندل) ولهم ارتابط تاريخي واقتصادي بالآراميين، في الشام والعراق.
والقبائل الإسماعيلية في شمال الجزيرة العربية هم أول من اطلق عليهم مسمى عرب وثم شمل جميع سكان الجزيرة العربية لاحقاً. فقد ذكر في النصوص الأشورية اسماء بعض ملوك العرب مثل الملك جندب العربي وتلخونو ملكة بلاد العرب وغيرهم وذكرت دومة الجندل بمسمى (حصن العرب) و(قلعة العرب).
وأول نص يذكر القيداريين نص أشوري يعود للقرن الثامن قبل الميلاد ويذكر قيدار مع الممالك المشاركة في الحرب ضد الأشوريين، فقد كان من سياسة الأشوريين في الحروب الأسر والتهجير وقد هجروا بعض العرب إلى السامرة التي تم تهجير أهلها إلى أشور.
وأدى بروز الأنباط كقوة سياسية إلى تلاشي قوة القيداريين وانتهى عصر ممالك قيدار والانباط بعد استيلاء الروم على مملكة الانباط، وقامت على أنقاض مملكة قيدار ومملكة الأنباط مملكتي المناذرة والغساسنة وهي مجرد امتداد للقيداريين والانباط وليست يمانية كما يدعيه اليمانية.
وبعد هذا التاريخ المتصل والحافل بالأحداث التاريخية المهمة يأتي من يحاول طمس القبائل الشمالية الإسماعيلية ويحولها لقبائل يمانية مهاجرة مع عدم وجود ما يثبت يمانيتها، مثل لخم وطيء وجذام وغسان وعدم وجود أدنى ذكر لها في مسرح أحداث التاريخ اليماني.
وإذا رجعنا لبعض ملكات أدوماتو القديمات سنجد الملكة (طايو) والملكة (تلخونو) وهذه الملكات اورثن قبليتي (طيء ولخم) في حدود مملكة قيدار القديمة.
وطيء ولخم عرفت فيما بعد بمملكة المناذرة وقامت على انقاض ممالك قيدار القديمة وتحول مركزها للحيرة وسط تمدد ونفوذ حميري متزايد باتجاه الشمال. وبالمقابل أورث الأنباط كيان قبلي عرف بالغساسنة على انقاض مملكة الأنباط القديمة أما ما يزعمه اليمانية حول هجرة قبائل يمانية واستحوذاها على شمال الجزيرة، فهذا يعارض التاريخ الحقيقي لهذه المنطقة بل وينسفه دون أدلة معتبره.
وأخيرا أثبت الحمض النووي وجود هجرات بشرية يمانية اختلطت بعرب الشمال في ظل وجود عنصر عربي شمالي مرتبط بسكان العراق والشام جينياً.
ومما يعزز تاريخ بني إسماعيل في شمال الجزيرة بالشام والعراق هو ارتباط لغتهم العربية الحديثة في جذورها باللغة الآرامية في العراق والشام بعكس لسان القبائل اليمانية البعيد كل البعد عن لسان بني إسماعيل عليه السلام والمرتبط بلسان سكان القرن الافريقي، وبعد هذا كله يأتي من يحاول نسف التاريخ الحقيقي لبني إسماعيل، والمتصل بالعراق والشام ليجعله يمانياً دون أدلة حقيقية معتبرة. والعنصر الاسماعيلي الذي اقصده هنا هو: السلالة العراقية-الشامية (J2).
(2)
مملكة قيدار: الو هم أم عقدة النقص:
سأتجاهل النزعة العرقية الوضيعة التي تفوح رائحتها النتنة من كل حرف في الحروف التي كتبها صاحبنا الاسماعيلي القيداري، مع أنها تكشف بوضوح عن العقدة التاريخية والنفسية التي يعاني منها هؤلاء، وهي عقدة (تاريخ وحضارة سبأ وحمير) وتاريخ اليمن. كما سأؤجل الحديث عن الأنباط، وسأتحدث فقط عن وهم مملكة قيدار..
هل كانت هناك يوماً مملكة بهذا الاسم؟ وعلاما يعتمد مروجوا هذه النظرية في اثباتها؟؟
سأدخل مباشرة في الموضوع، متجاهلاً المصادر التوراتية وكتب الاخباريين.. فالحقيقة العلمية تستلزم أن أركز فقط على الأدلة المادية: النصوص الأثرية، التي يقول أصحاب هذا الاتجاه، بأنهم وجدوا جزءً هاماً من تاريخ مملكة قيدار فيها، وهي نصوص من كتابات وحوليات الأشوريين..
**
يعتمد الباحثون المؤيدون لفكرة (قيدار) على عدة نصوص تاريخية:
النص الأول: للملك الآشوري شلمنصر الثالث والمعروف باسم "نص المسلة السوداء"، والذي جاء فيه أن ملك العرب (جنديبو) شارك في الحلف الآرامي الذي وقف في وجه الأطماع الآشورية، وحارب (شلمنصر الثالث) في معركة قرقر عام 853 ق.م.
النص الثاني: جاء بعد حوالي قرن أو اكثر من زمن شلمنصر، في عهد الملك الآشوري تيجلات بليسر الثالث (745- 612 ق م) يذكر قبيلة من قبائل العرب أو ما شابه، واسمها في النص (قدرو) (Qidru)، وهذا ما اعتبره (القوم القيداريين) بأنه اول ذكر تاريخي لــ (قيدار)، وافترضوا ان جنديبو هو قيداري ايضاً وان مملكة قيدار كانت اقدم من عهد تيجلات بليسر الثالث.
وفي النص نفسه يأتي ذكر [الملكة زبيبي ملكة العرب]- هكذا بهذا الاسم- والتي ارغمها الآشوريون على دفع الاتاوات.. وأيضاً افترض القوم بأنها ملكة قيدار وأنها حكمت دولة في شمال الجزيرة العربية، كان مركزها وعاصمتها في (ادوماتو) التي يفسرونها بأنها دومة الجندل..؟!!
ثم تتحدث نصوص آشورية أخرى عن الملكة شمسي ملكة العرب.. ومرة أخرى يفترض هؤلاء الباحثون أنها ملكة قيدار.. ونجد نصوص أخرى تتحدث عن ملوك وملكات أخرين.. وسيتم افتراض أنهم جميعاً ملوك قيدار، التي لا ذكر لها اطلاقاً في هذه النصوص.
والسؤال المهم هنا هو: هل ذكر اسم (قدرو) في النصوص الأشورية، يعتبر دليلاً على مملكة قيدار؟؟
في كل الأحوال، سأركز في ردي على أمرين:
الأمر الأول: ان ذكر (قدرو) يأتي ضمن ذكر العرب جميعا أي باعتبارها قبيلة عربية أو ما شابه، وفي كل النصوص لا يوجد ما يشير الى أن ملك او ملكة العرب كانوا من هذه القبيلة.. فالوصف العام والصريح لأولئك الملوك والملكات المذكورين في النصوص الاشورية هو انهم عرب وملوك للعرب..
أما كل ما يقال بعد ذلك عن مملكة قيدار فليس إلا مجرد افتراضات للباحثين عن أصول عرقية وسلالية لهم في أزقة التاريخ.
الأمر الثاني: أن اسم (قدرو) لا يعني – كما ولا يوجد مسوغ ابداً لاعتباره- (قيدار).. فهناك فرق واضح بين قدرو وقيدار .. ولا أظن أنه كان من الصعوبة على الآشوريين أن ينطقوا كلمة قيدار وأن يكتبوها هكذا (قيدار أو قيدر أو لنقل قيدرو.. أو حتى قودار..)، المهم أنهم - أي الأشوريون- كتبوها كما نطقوها ونطقها أعدائهم العرب.. إنه اسم مجرد اسم.. لذا فإنهم عندما ذكروا قدرو كانوا يعنون بالضبط اسماً ينطق عند العرب هكذا..
علاوة على ذلك، فإن اسم (قدرو) لم يرد في سياق كل النصوص الآشورية إلا مرة واحدة، ودون أن يكون لهذا الاسم أي ارتباط فعلي بملك العرب أو بالحاكمية عليهم.. أي أنه لم يكن اسماً ملكياً وليس له أي دلالة ملكية أو سياسية.
وإذا أخذنا بإمكانية صحة هذا الافتراض فعلاً، فإنه في احسن الأحوال لن يكون أكثر من مجرد قرينة ضعيفة جدا، لا ترقى الى مستوى الدليل القطعي أو نصف القطعي أو ربع القطعي.. الخ.
هذا كل شيء..
فلا وجود لقيدار ولا مملكة قيدار بذلك الحجم الذي يتكلم عنه أولئك المدعين، وإن وجدت بالفعل فلن تكون أكثر من كيان صغير وجد في مساحة تاريخية عابرة، فالمساحة الزمنية التي يمكن منحها لهذه المملكة الوهم لا يعدو أكثر من قرنين من الزمان، وبالتحديد من النصف الثاني من الألفية الأولي قبل الميلاد..
إذن، فمملكة قيدار فكرة واهية مصدرها التوراة، حاول أصحابها المتعصبين عرقياً أن يجدوا لها سنداً في علم الآثار، فوجدوا ما ذكرته أعلاه وبنوا عليه افتراضاتهم التي يتعاملون معها اليوم باعتبارها حقائق أو باعتبارها جزءً من نصوص الآشوريين.. ثم عادوا ليكملوا النظرية بما جاء في مصادرها الأصلية.. وهي التوراة وروايات الإخباريين الذين سلخوها أيضاً من التوراة..
هذا، مع خالص التحية للجين (J2).
-
فكري آل هيرمواطن لا أكثر ..