المَخا وعُقْدَةُ البُنّ
المخا دون تقييد
نشر في 23 نونبر 2022 وآخر تعديل بتاريخ 24 نونبر 2022 .
في الوقت الذي كانت تحتشد فيه السفن الغربية على بندر المخا بغية تحميل ثمار البن ، كان التجار والسفن العمانية والتركية والمصرية والفارسية والحجازية والهندية والعراقية والشامية تتزاحم على مرافئ اللُحَية ، والحُدَيْدَة كذلك لتحميل ثمار البن ، وهذه المراكب قد تكون صدرت من ثمار البن اكثر بكثير مما نقله الغرب عبر سفنهم.
إذا لما رُبطت المخا وحدها دون غيرها من بقية المرافئ بالبن ، وتم تقييدها به؟
وهل فعلا كانت أهمية المخا متقيدة بالبن دون غيره من السلع؟
سؤالان نطرحهما سعياً لإمساك عقدة ربط المخا بالبن ومحاولة فكها وتقديم تاريخ تلك الحقبة كما كانت دون النظر إليها وفق كتابات المعاصرين.
بعث المخا
دخلت جنوب غرب الجزيرة العربية قبيل البعثة النبوية في مرحلة صراع ديني ، تكالبت حينها القوى عليها عن طريق حلفائها في الجوار والداخل ، وكانت إحدى نتائج الصراع تدمير المخا عبر حملة آخر ملوك حمير يوسف يسأر يثأر (ذو نوس) والتي سنّدها في نقش نجران سنة 633م ، ومن بعدها دخلت المنطقة في نفق التاريخ المظلم ، وتكفلت عدن بالدور اللازم على مداخل البحر الأحمر.
منذ نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر الميلاديين تحول المحيط الهندي الهادئ لمحيطٍ هائج ، بفعل أعمال القرصنة البرتغالية والتي أفزعت حضارة المحيط الهندي المسالمة ، فتوجب على الممالك والإمارات التي تربطهم المصالح الدينية والاقتصادية والحضارية ككل التحرك لإيقاف الطارئ الغريب والمعادي العابث في المحيط وسواحله ، قاد المماليك الحلف لردع البرتغاليين ، والتحمت السفن والقوارب قرب ديو في 3 فبراير 1509م ، وعرفت بمعركة ديو البحرية ، انتهت من خلالها السيطرة المملوكية وسيطرة الممالك والإمارات في المحيط الهندي ، وأصبح المحيط خالي من أي منافس للبرتغاليين حتى ظهور العثمانيين بشكل مباشر في المحيط.
دفعت التهديدات البرتغالية الرامية لنبش الروضة الشريفة ووصول البرتغاليين لجدة (بندر مكة) منذ العام 1513م وضرب الحصار عليها عدة مرات بالعثمانيين على وضع حد لمنع السفن البرتغالية والافرنجية الغربية ككل من التعمق في دخول البحر الأحمر وتحولت المخا ذات الموقع الإستراتيجي على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر آخر نقطة لوصولهم بحيث أمنت الدولة العثمانية البحر الأحمر من أي دخول للسفن الغربية ، وإن لم تستطع الدولة العثمانية السيطرة على القرصنة البرتغالية وصدّها بالشكل اللازم في المحيط الهندي بشكل عام.
حاكت الأوضاع السياسية حينها تعرف الغرب على ثمرة البن ، وسعوا للوصول لمراكز زراعته في جنوب غرب جزيرة العرب ، وكل ذلك ساعد على بعث بندر المخا وخروجه من نفق التاريخ المظلم ، وتسطيره بشكل واضح في مسرح التاريخ.
المخا وتقييدها بالبن
وقفت على سواحل البحر الأحمر ثلاثة مرافئ رئيسية تكفلت بتصدير البن للعالم ، ففي الوقت الذي كانت المخا آخر محطة للسفن الغربية على مداخل البحر الأحمر لتحميل ثمار البن والتجارة ، كانت السفن العمانية والمصرية والحجازية والشامية والفارسية والعراقية والهندية والتركية تتزاحم على مراسي الحديدة واللُحَية وأيضا المخا لتحميل ثمار البن والتي قد تكون تجاوزت حمولاتها السفن الغربية.
يأتي الفارق الوحيد في أن التأريخ المدون حول تجارة هذه الثمرة جاء عن طريق السجلات الغربية التي حُفظت في أرشيف الدول (هولندا ، بريطانيا ، فرنسا) في حين وجدنا النزير من السجلات الشرقية التفصيلية عن تجارة البن ، فكانت محصلة الأبحاث عبر السجلات المحفوظة الجزم بأن المخا هو المرفأ الوحيد الذي تكفل بتصدير البن بكميات كبيرة في حين صدرت اللُحَية والحُدَيْدَة كميات أقل ! ، وحَوِرَ اسم إحدى انواع القهوة باسم (موكا) نسبةً للمخا ، وانتقلت للبلاد العربية الأبحاث التي تقيد بندر المخا بثمرة البن دون غيرها ، وأن أهمية المخا ما كانت لولا هذه الثمرة ، وهي السلعة الوحيدة المصدّرة عبر بندرها! غافلين أو متغافلين تزاحم البضائع والسلع القادمة عبر بلدان المحيط الهندي تنتظر دورها في جمارك المخا حتى يسمح لها الدخول ، كما لا نغفل عن المنتجات المحلية الأخرى التي كانت تصدر عبر البندر ، وكل هذه البضائع تستهلك في الحياة التجارية اليومية ، عبر السكان المحليين او التجار الموسميين أو الحجاج في طريقهم للأراضي المقدسة.
كانت هذه المحصلة من النتائج والربط تأتي لعدم وجود سجلات ووثائق شرقية – إلا النزير – تستعمل من قبل الباحثين مقابل الكمية الكبير للسجلات الغربية ، وإن استحق مكان ما ربطه بثمرة البن لن تستحقه سوى مدينة بيت الفقيه والتي ضمت حينها أكبر سوق للبن في العالم ، وتقع على مفترق الطرق ، حيث تربط الجبال مراكز زراعة أشجار البن بالبنادر الرئيسية لتصدير الثمار ، وكذلك تقع على الطرق المؤدية براً لتهامة الحجاز.
أهمية المخا
تأتي الأهمية الاستراتيجية لمدينة المخا وبندرها من موقعها الجغرافي ، القابع على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر ، والمواجه للسواحل الافريقية ، وهي بوابة اليمن الجنوبية الغربية حيث تقع قرابة نهاية سلسلة جبال السراة الممتدة جنوبا والتي تعود وتنعطف شرقا .
ولطالما كانت المخا في التاريخ القديم مركزاً رئيسياً عبر طرق التجارة ، وحلقة وصل ما بين جنوب غرب الجزيرة العربية والساحل الافريقي المقابل دون وجود ثمرة البن ، ولما بعثت مطلع العصور الحديثة (إن صح لنا التعبير) لم تبعث بفضل البن بل بفضل موقعها الهام في خارطة الصراع الدولي على منافذ البحر الأحمر ، وفي القرن التاسع عشر والعشرين بعد تقلص أهمية ثمرة البن اليمنية واستعاضة العالم بثمار البن البرازيلية والكولومبية والجنوب شرق آسيوية ، استمرت المخا كموقع استراتيجي بعيداً عن البن ، ودخل الجميع في صراع للسيطرة عليها ، وهذا كله أنهك المدينة وبندرها وهجرها سكانها ، واليوم تستمر الأهمية خاصة في صراع جديد بين قوى جديدة على مداخل البحر الأحمر.
فالمخا أكبر من أن تقيد بسلعة محددة وأهميتها تأتي من موقعها على الرغم من محيطها البري الأجدب والمناخ الصعب والمياه النقية الشحيحة.
-
محمد المضواحيباحث في التاريخ والعلوم الإنسانية