في لوحة الدنيا - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

في لوحة الدنيا

  نشر في 13 يناير 2019 .

في لوحة الدنيا، مدارات وخطوط لونية تقتضيها تشكيلات الروح والوجدان والفكر.

وهي إن اتفقت أخيراً على مغادرة الخيال، إلا أن الإرادة لا زالت في حالة من التشتت والارتباك!

كذلك تتأمل ريشة الرسام إمكانية كشف الخفاء، وهي واعية، عارفة، ومدركة أن في عمق كل لون احساس متسلط ،حاد المزاج، لن يسمح لها بالإختيار .

لكن يبقى لها ما يميزها، فهي ممتلئة بالطاقة، منتشية بالفهم والذوق

وفي لوحة الدنيا حيث تجتمع التناقضات والأضداد، آهات حزن ، وعبور غناء.

ونموذج متفق عليه يسكب ذاكرته على أوراق الروح آمراً ناهياً بما ينبغى .

ورقص وفرح بنسبية المعنى . ومحاولات تستهدف جذب القلوب نحو مركز الجمال.

والجمال يقين القلوب وبرهان صحتها وسعادتها.

في لوحة الدنيا حيرة رسام، لا يريد تكرار أنماط سابقة .

ورغم استهتاره بما سيأتي إلا أنه ما زال محتفظاً بخصائص غايته النبيلة في دالة لون يتمايل مع ريشته بخفة ليسألها مزيداً من الجنون كطفل يسأل أرجوحته متى سنصل إلى السماء؟

تَشُدّه مرونة صور الغموض، وتلك اللمحات الصوفية المتفردة بشكل يفرض عليه معياراً جديداً للتقدير والتفضيل والبدء برسم نفسه أولاً!

وبالفعل هذا ما كان في شأن نزعة تلقائية راودته، لو لم يباغته من أحوال الفكر ما جعله يتراجع عنها، ويتوقف عن الرسم متأملاً لوحة الدنيا ومتفكراً في خيرها وشرها وما تضمنته من معانٍ ودلالات وأبعاد.

إن اللجوء إلى ما أوجده الوعي البشري بكدح القلب والعقل في ميادين الحياة ليس غريباً على من تسكن في داخله روح فنية حالمة.

كذلك من الطبيعي أن يجد الرسام مبتغاه في خواطر الفهم والتأمل المتحررة من قيود الواقع، المليئة بالحكمة، والنابضة بالرمزية.

أخذ الرسام نفسا عميقا ثم أغمض عينيه لثوان طلباً للتركيز على موقف أكثر إيجابية، قبل أن يخاطب نفسه بقوله : حتى لو تسربلت المعرفة ثوب أوهامنا، لن أكون في لوحة الدنيا سجيناً للمادة ما دمت أخلع عليها ما أشتهي من الصفات. وأقوم بإهداء البشر أكثر الأعمال تفقهاً بمفهوم الجمال.

لكن ما يجعله حائراً حقاً هو الواقع الذي لا يكفّ عن الصراخ في رأسه : ألم تعلم بعد أيها المسكين أنه كلما زادت معرفة الرائي، اتسعت معها عين ادراكه للقبح والبشاعة، مما يقلل في النتيجة منسوب إيمانه!

توقفه الصدمة قليلاً لكنه لا يلبث أن يعود لأدوات الرسم ثانية.

عناده أشد ضراوة من أخبار شرور الصراعات المرعبة التي تطرق سمعه كل حين.

كل طرفٍ يشيّع قتلاه

وقلبه المثقل بتعقيدات التاريخ والجغرافيا لا يتسع للكلّ

يقع في حيرة رهيبة.

يقول في نفسه وقد أمسى مقتنعاً أن نيران الحروب والصراعات واقع لا مفر منه :

لم يكن الضحايا يوماً من يجعل نيرانها شاعلة، فخديعتها أنها تقتل ضعفاء الأمل لتستثني أقوياء الطمع والجشع ...

كم يلزم الأرض التي ضاقت بإختلاف ألوانها من مساحات نظيفة لتكبر في عين الكون وتصبح جديرة بالوجود الهندسي والرؤية ،وكل شيء يحيل الفكر إلى جوهر لونين يتصارعان، ويتسيدان فلسفة الحياة، وتجسدات الخوف والشجاعة والبطولة.

لون النار، تلك الثمرة المحرمة التي اكتوت بها روح الإنسان البدائي ، قدسها ، طوطمها، خوفا منها و اعترافا بأهميتها.

ولون النور، طائر الخير والمعرفة، الذي يسافر بصمت تتجمع في تدرجاته كل أنواع الحقيقة.

حتى يصل الينا معانقاً كوكبنا بأطيافه السماوية، فتحمله لأجسادنا روح الحياة الساكنة كل ذرة ، كل نبضة .

وأمام تلك المفارقة العجيبة التي تجسدها طبيعة متكيفة مع النور إزاء تقلبات النفس البشرية التي يصعب عليها تقبل صراحته ووضوحه  ، تكفينا وقفة صدق لنتبين أن السيطرة على الأمور السيئة مهارة لا يتقنها جميع البشر ،كما أن المرء يكون سريع التأثر بكل ما يتفق مع أهوائه ومصلحته الشخصية.

لذا دائماً ما يبدو الرسام متحذلقاً وفي قمة التفاهة إن حاول افتعال شعور أو انطباع في أذهان الآخرين لا يملك هو شخصياً امكانية السيطرة عليه...

ولأن العقل غالباً ما ينجح في استخلاص المناسب من القوانين وهو في خضم تجاربه، فقد أصبح لزاماً عليّنا أن نكون أكثر فهماً وقرباً من لوحة الدنيا، وسواء كنا رسامين أو من مجموعة المتفرّجين العالقين بين لوني النار والنور، لا مناص من إيجاد استجابة تمنح صاحبها قيمة شجاعة حرف (الواو).

نهض الرسام أخيراً من مكانه وسار بخطوات متزنة مقتفياً آثر ما توصل إليه من مشاعر وأحكام.

تناول من أعماقه بعض الأدوات البسيطة، تأملها ثم هذبها بلطف وبدا واثقاً ومستعداً لرسم شيء ما...

ورغم أن الشرور على الأرض لم تنته بعد إلا أنه كلّما ماتت نجوم في السماء تاركة وراءها سحابة كونية لتولد منها نجوم جديدة رسم صورة  للأمل.


  • 32

   نشر في 13 يناير 2019 .

التعليقات

afreh منذ 2 سنة
مقال اكثر من رائع
1
رولا العمر
شكرا من القلب لمرورك الجميل
. منذ 3 سنة
مقالٌ مذهل حقاً!
2
رولا العمر
امتناني وتقديري لمرورك الجميل والراقي
نص أدبي منقوع في بحيرة عميقة من الروحانية! جميل الشكل و المضمون!
1
رولا العمر
كل الجمال بمرورك الأنيق كاتبتنا الرقيقة ..
جمال عزوز منذ 4 سنة
لوحة جميلة
4
رولا العمر
كل الشكر على المرور الطيب امتناني وتقديري
اية منذ 4 سنة
مقال مذهل !
4
رولا العمر
الف شكر على المرور الراقي والجميل
jalal mohel منذ 5 سنة
لوحة الدنيا فيها من الالوان و الاشكال ما يجعلها بسيطة و جميلة وفي آن معقدة
و موحشة لدرجة لا يمكن تصورها ...
كل المتناقضات و الاضداد اجتمعت في تناسق
لا مثيل له .. تتداخل و تتفاعل فيما بينها في تناغم حينا و في تنافر احيانا اخرى ...
لوحة الدنيا او بالاحرى لوحات الدنيا .. لأن لكل
واحد لوحته الخاصة برغم تمازجها و تنافرها مع اللوحات الاخرى تبقى خاصة بكل كائن ..
فيها من الالوان ما هو اكثر عتمة من الاسود
و ما هو اكثر نصاعة من الابيض .. ويبقى
اللون الوردي اجملها اهدي اليك منه باقة من الزهور تعطر لوحتك الخاصة ...
5
رولا العمر
صدقت لكل واحد منا لوحته الخاصة تجتمع وتتفاعل فيها المتناقضات والأضداد حيث كل حركة من تناغم أو تنافر سواء كانت بين الأسود والأبيض وتدرجات الألوان الأخرى تمثل روح الحياة الساكنة فينا .. باقة شكر وامتنان على الحضور الرائع والإضافة الجميلة والواعية أيها الراقي.. دمت بخير وسعادة
اعتقد يا رولا باننا جميعنا رسامين ، كل يرسم حسب منطقه ولكننا في النهاية لوحات فنية جميلة ، بعضها يجتمع ويتناسق وبعضها يختلف وبعضها غير مقروء ونبقى من الانس ونأنس بك وبكلماتك .
6
رولا العمر
صحيح أخي محمود حياة كل واحد منا لوحة فنية متميزة يرسمها من منظوره الخاص ويتفاعل مع عناصرها وفق منطقه وخبراته أشكرك على رقي التواصل وروعة الحضور أخي الطيب
محمود بشارة
ولك الشكر أيضا لتزيدي افكارنا الوانا وجمالا بالحروف والكلمات .
راوية وادي منذ 5 سنة
أحسنت الوصف و السرد.التأمل نعمة من الله أهداها الله رسلة و انبياؤه لأنها تدعو للتفكر و الإيمان. مقال جميل و مثير و أسعدني جداً.
6
رولا العمر
صحيح عزيزتي راوية وهو من أهم وأعظم النعم يكفي ان نتصور حال وعي الانسان عندما يهمل التأمل ويغرق نفسه في بحر عبودية المادة واللامبالاة،أسعدني كثيراً تواجدكِ وتعليقكِ الجميل،دمتِ أنيقة الفكر والحضور.
وإن ارتعشت ريشة الرسام قبل نقل جانب من لوحة الدنيا فلم يعجز قلمك على نقل صورة من فكرك الجميل وروحك الحالمة بحروف من نور ..وما ذلك إلا انعكاس لحسك المرهف وتعبير عن مدى تواصلك مع هذا الكون البديع .
6
رولا العمر
ألف شكر غاليتي عائشة على حضورك الدافئ وكلماتك الرقيقة دمتِ نقية الحرف والوجدان.
Salsabil Djaou منذ 5 سنة
ما أجمل قلمك رولا ، لوحة فنية جميلة جدا "يتمايل مع ريشته بخفة ليسألها مزيدا من الجنون كطفل يسأل أرجوحته متى سنصل إلى السماء " رائعة ، "يبدو الرسام متحذلقا و في قمة التفاهة ..." ذكية ، سعيدة جدا بمتابعتك و القراءة لك ،تحياتي .
5
رولا العمر
شكراً لأناقة حرفك التي أشرقت من احساسك المُفعَم بالصدق والجمال عزيزتي مع محبتي وتقديري لك أيتها الراقية.
Salsabil Djaou
الشكر موصول لك على طيب ردك ، كل التقدير لك كاتبتنا الجميلة.
احمد يوسف منذ 5 سنة
أعتقد أن المسألة مرتبطة بالمشاهد أو فلنقل بالمتلقي أكثر منها بالرسام، فجمالية الرسوم تضيع مع فساد الأذهان، والعكس صحيح، فالأذهان الصافية تُحسن التلقي، وترى بذور الحسن في القبح.

شكرا على المقال الجميل
7
رولا العمر
صحيح لكن الرسام أيضا متلقي وذلك لأنه من صميم عمله الفني والجمالي محاكاة مشاهداته وملاحظاته المستمدة من حياته اليومية أو من لوحة الدنيا .. أيضا لا يتوقف الأمر على ما قد يرتسم على مرآة ذاته بل على طريقة التعاطي مع الظروف المحيطة به والتي تكون احيانا في منتهى السوداوية في حين يتطلب عمله توفر الجمال . جمال يجذب العيون ويريح القلوب ثم تقديمه للناس بشكل لائق دون مبالغة أو تقصير... أشكر مرورك الراقي أستاذ أحمد..
استمتعت وأنا أقرأ مقالك ، سابحةً في تفكيرك ورؤيتك الجميلة للوحةٍ تبهر كل من أعمل فكره..
جميل.
7
رولا العمر
ممتنة أنا لحضوركِ وكلماتكِ الراقية عزيزتي يسرى . مع احترامي وتقديري وتمنياتي لك بأوقات جميلة تملأ قلبك بالفرح.
مقال رائع يا رولا
8
رولا العمر
الروعة فيما ينثره حضورك من صدق وجمال غاليتي سهام
صدقتى # لوحة الدنيا تجتمع التناقضات والأضداد، آهات حزن ، وعبور غناء.
ورقص وفرح بنسبية المعنى . ومحاولات تستهدف جذب القلوب نحو مركز الجمال.
نهاية المقال غاية في الاحكام والروعة رولا *ورغم أن الشرور على الأرض لم تنته بعد إلا أنه كلّما ماتت نجوم في السماء تاركة وراءها سحابة كونية لتولد منها نجوم جديدة رسم صورة للأمل.* وانتى رسمت صورة جديدة لنا مليئة بالأمل...دام قلمك المتألق
6
رولا العمر
سعدت جداً بمرورك وقراءتك أخي الرائع إبراهيم شكرا لدعمك المتواصل وتعليقك الراقي ...لك كل الإحترام والتقدير ولقلبك أجمل وأصدق أمنيات السعادة.
ابراهيم محروس
وانتى كمان رولا

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا