الغربة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الغربة

قصة قصيرة عن الغربة

  نشر في 11 أبريل 2016  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

هبطت الطائرة وافاق من نومه العميق الذي قد أراحه من عبء السفر الطويل، افاق وهو ينظر بعيني عقله وقلبه قبل ان تنفك غشاوة النوم عن عيني جسده، ينظر الى هذه الرحلة الطويلة، ليست رحلة امتدت ساعات خلال يوم واحد، فهذه الرحلة قد اعتاد عليها كل عام ذهاباً واياباً، لكنها رحلة الغربة التي قد امتحنت صبره لعدة سنين لينال منها شهادة يعتز بها امام اهله واصدقائه، وقبلهم جميعاً نفسه التي بين جنبيه.

قد تنفس الصعداء اثناء نزوله من الطائرة والوقوف في طابور الجوازات واستلام امتعته ليتم بذلك معاملة خروجه من المطار، ليخرج من حلقة الوصل التي تربط ما بين عالمين مختلفين تماماً، قد عاد الى بلده والى ناسه واهله وصحبته القديمة، لكنه مع ذلك عالم جديد بالنسبة له، لانه لم يعد كما ذهب، ذهب وهو طالب صغير السن لم يقبل على العشرين من عمره، ذهب وكل ما يملأ عقله هو التفكير في كيفية مواجهة المجهول، ذهب وهو يستمع بكل شغف الى والديه يوصيانه بالصلاة وذكر الله والتركيز على هدفه من الدراسة والصحبة الصالحة، ذهب وهو مصغي تماماً لكل نصيحة عسى ان يكون بها حبل النجاة من الذي سيكون مصيره بعد سويعات قليلة من وصوله الى بلد الدراسة.

وعندما وصل الى هناك، تذوق ولاول مرة طعم الغربة الحقيقي، قد سمع عنها كثيراً ولكنه الآن بدأ يعايشها، بدأ يستشعر معنى ان يكون الانسان غريباً، ليس الانسان فقط، حتى الاجواء اختلفت من حوله، جسده الذي لا يملك إلا ان يكون مطيعاً لسيده تمرد عليه وانقلبت موازينه فبدأ القلب بزيادة سرعة نبضاته، وبدأت الامعاء بالتقلص والتشنج، والافكار بالتناثر هنا وهناك، علّها تجد مخرجاً مما تواجهه او عالاقل حلاً يعيد حالة السكون على اعضاءه.

الغربة درجات، فهناك الغربة عن الاوطان، وهناك الغربة عن العادات والتقاليد وهناك غربة الدين وغربة اللغة، واصعبها غربة الفكر، ما اصعبها على النفس ان يكون الشيء الذي يلازمك طيلة يومك وليلتك غريباً عما تعايشه حولك، فقد مرت الايام على هذا الطالب وبدأ شيئاً فشيئاً يتعلم لغة البلد، ومع انتشار الاسلام في كل مكان وجد ضالته الروحية في مسجد يبعد قليلاً عن مسكنه، ليس بالبعد الذي يجده في بلاده، فقد اعتاد ان ينظر من نافذة بيته ليرى من خلاله منارات مسجد حيه الذي يسكن بها، وقد يسمع في وقت الاذان الواحد عدة مؤذنيين ينادون المسلمين الى الوقوف بين يدي ربهم ليقيموا صلواتهم وينعكفوا على عبادته سبحانه.

انضم لصحبته الجامعية التي تشبهه عقلاً وفكراً ولغة وديناً وبلداً، اعتكف معهم ليجلي بذلك اصداء الغربة التي يتحاشى الوقوع والغرق بها خشية اثارها العاطفية على نفسه، وخشية ما قد حذروه من لهيبها ومرارتها، عند انخراطه اكثر فاكثر، وبمضي الشهور والسنين بدأ يلاحظ اثار الغربة على الناس من حوله.

فمنهم من يجعلها شماعة يعلق عليها امراض عقله وتخبط افكاره وضعفه امام شهواته وانزلاقه امام مغرياته، فهؤلاء يتعذرون بأن ذلك هو الرد الطبيعي لمواجهة التغيير الذي واجهوه ولم يكونوا قد تعودا عليه اثناء اقامتهم عند اهلهم، فهنا افعل مابدا لك، ليس هناك رقيب ولا شهيد على افعالك بحسب ظنهم القاصر، يفعلون ما يفعلون وكأنهم يجازون بذلك رقابة اهاليهم عليهم، وكأنهم ينفثون عن صدروهم الكبت الذي لاقوه من مجتماعتهم، وباسم الحرية تجد العجب العجاب من تفننهم في اقامة حفلاتهم الماجنة والصاخبة، وكأن الشيطان لعنة الله عليه هو من يقف بأبواب تلك الحفلات لينظم بها ليلتهم ويطرب افئدتهم.

هناك نوع اخر لاحظه لا يقل عن النوع الاول، الا بالعذر الذي يرددونه على من ينصحهم لعدم الاقبال على ما يضرهم، وعذرهم انهم يريدون تجربة كل شيء كانوا قد حرموا منه، او فقط يريدون تجربة كل شيء، نواياهم حسنة، وقد يقولون ذلك وهم انقياء من الداخل لا يبتغون بذلك غضب رب العزة والجبروت، ولكن بهم شغف لتجربة الجديد والغريب حتى لا يندموا على أية لحظة اضاعوها في غربتهم، فينغمسون بالشراب والسهر واللهو وكل ما تطلبه اهوائهم او تملي عليهم غرائزهم المبنية على شهواتهم، وايضاً لاحظ على طلبة عندهم نفس الشغف، شغف تجربة الجديد.

الا ان ما وجده عند الصنف الثالث هو الميزان الرشيد، الميزان الذي يفرق بين الحق والباطل، بين المفيد والمضر، بين الحلال والحرام، بميزان استقوه من اهل الحكمة، ليس بميزان الرقابة التي تأتي من الاهل او من البيئة او من العيب والممنوع، حرية تامة الا انها منصرفة فيما يحبه الله ويرضاه، او بما لا تتعارض مع ماينهى الله عنه.

ولكنهم ايضاً وجدوا كثيراً من الامور الجديدة عليهم، فوجدوا الطبيعة الخلابة والاجواء العليلة، وجدوا النظام في المعاملات واحترام الوقت بشكل مبالغ فيه، وجدوا ايضاً اهتماماً في القراءة، فأينما يذهبون يجدوا الكتاب في اغلب ايدي الناس في الحافلات و في المقاهي وعلى جوانب الطريق، فاستغلوا بذلك اضافة عادات قد تكون غريبة عليهم نوعاً ما في اوطانهم، الا انها في بلد اقامتهم امراً اعتيادياً لا يجدون به اي تميز، وجدوا الاعمال التطوعية، وجدوا ثقافة الرياضة والمشي، وجدوا الانهماك في العمل، والكثير الكثير من الامور الايجابية بجانب ما يحذفه ميزان عقولهم من السلبيات التي يشاهدوها اثناء اقامتهم، وأثروا عقولهم بتلك المعاني والثقافات السامية، فالحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها.

نوعاً اخير لاحظه بين صحبته، وهم من لا ينفتحون لا على الايجابيات ولا على السلبيات، وينطوون وينكفؤون على انفسهم فلا يضيفون ولا ينقصون، فقط ينتظرون ايام دراستهم، يعدون سنين عمرهم عداً لكي يرجعوا الى مسقط رأسهم، قد نطلق عليهم المحافظين او المتحجرين في اعتقاداتهم، او المتشبثين بمبادئهم وتقاليدهم.

في نهاية المطاف تعلم ذلك الطالب درساً في معنى الغربة، وهو ان مرجع الغربة كله في الفكر الذي يملأ عقله، فكلٌ يتصرف بما قد اختزن في اسبار ودهاليز ذلك العقل، فمن كانت سريرته خيراً انسكب على كل ما يلاقيه امامه حتى لو استهجنته و استنكرته عاداته وسلوكياته، وان كان قد عبأ ذلك العقل بالامراض والافكار الهدامة انقلب ذلك وبالاً وشراً عليه لا محالة، والغريب انه بعد ان يلتذع من الم تلك الافعال المشينة التي قام لها بارداته، اتهم الغربة وسبها ولعنها وقد يقوم بقذفها ان تطلب الامر، وهي بريئة منه براءة الطفل في حجر امه.

استقبله اهله بالاحضان ودموع الفرح تنغمر في عينيه وفي اعينهم، والبهجة تكاد ان تشقق صدورهم لهفة وشوقاً الى ولدهم، وقد اقاموا له احتفالاً ووليمة في بيتهم تطايرت اخبارها الى سكان حيهم جميعاً، ترى كيف هو شعور أمه في تلك اللحظات؟ كيف هو شعور أبيه؟ كيف شعوره هو نفسه وهوا عائدٌ لحياته التي قد فارقها لسنين عديدة، ورغم ان هذه الرحلة قد تكررت مرات عدة نهاية كل سنة دراسية، الا انها هذه المرة مختلفة تمام الاختلاف، الكل من حوله قد بارك له تخرجه وقالوا كلمة قد توقف عقله للحظات يتدبر معناها الحقيقي، اخيراً قد انتهيت من سنين الغربة!!

فعصفت بذهنه تلك الجملة، وانطفأت حاسة السمع لديه وهو يجول بخاطره في التفكر بسؤال قد استغربته جميع خلايا عقله، هل انتهت الغربة حقاً؟ ألا أشعر الآن بنوع من الغربة؟ هل سأعاود الكرة من جديد؟

انتهى

عبدالرحمن سالم




   نشر في 11 أبريل 2016  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !




مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا