سلوكٌيّاتٌ عربيَّةٌ في كَفَّةِ الميزانِ
حرارَةُ الطّبْعِ وَحِدّةُ المِزاجِ
نشر في 01 نونبر 2014 .
استوْحيْتُ فكرةَ الكِتابَةِ في هذا الموضوعِ مِنَ التّأّمُّلِ في طّبيعَةِ الحياةِ الاجتماعيّةِ الّتي نعيشُها في مُدُنِنا وبَلْداتِنا وَقُرانا العربيّةِ. وَلَسْتُ أعني هُنا مُدُنًا أوْ بلداتٍ أو قرًى في دُوَلٍ عربيّةٍ بِعَيْنِها، بَلْ أقصِدُ تناوُلِ سلوكيّاتٍ عربيّةٍ عامّةٍ، نراها وَنُعايِشُها. وَقَدْ أتاحَتْ لَنا شاشَةُ التّلفزْيُونِ، وأثيرُ الإذاعاتِ، وَشَبَكةُ الإنترنِتِ، مُنذُ العقدَيْنِ الأخيريْنِ، فُرصَةَ ملاحظَةِ السّلوكيّاتِ العربيّةِ في العَالَمِ العربيِّ بِشَكْلِ مُكّثّفٍ، وَهِيَ تكادُ لا تَخْتَلِفُ مِنْ بَلَدٍ عربيٍّ لآخَرَ.
وَلسْتُ أرُيدُ مِنْ مقالَتي هذهِ أَنْ أُعَمِّمَ، ذلكَ أنَّ الاختلافَ والتّبايُنَ هوَ مِنْ سِماتِ كلِّ شيءٍ في الوُجودِ، وَخصوصًا النّاسِ الّذين تختَلِفُ أمزِجتُهُمْ وأهواؤُهُم وَظروفُ حياتِهِم وَقُدُراتُهُمُ النّفسيّةُ وَالبدنيّةُ وَالعقليّةُ. بيدَ أنَّ التّحدُّثَ بنوعٍ العُموميّةِ يُيسِّرُ لَنا تناوُلَ الموضوعِ الّذي نتحدّثُ عنْهُ، وَيجعَلُ مِنَ السّهولَةٍ بِمكانٍ إبرازَهُ وَتوضيحَهُ لِلقارِىءِ.
مِنْ أوَلِ ما يَسْتَرْعي انتِباهي في السُّلوكيّاتِ الّتي رُبّما تُعَدُّ مِنْ مُميِّزاتِ الشّعوبِ العربيّةِ خُصوصًا والشّرقيّةِ عمومًا طابَعُ حَرارَةِ الأعصابِ والطّبعِ الحادِّ، حيْثُ تميّزُ الغالِبَ الأعمَّ مِنَ أبناءِ العربيّةِ – إلاّ في حالاتٍ خاصّةٍ-، بِسُرْعَةِ الغَضَبِ، وَأَحْيانًا لِأسْبابٍ يَصْعُبُ فَهْمُها. فَحِدَّةُ المِزاجِ تتضمّنُ سُرعَةَ الانتقالِ مِنْ حالٍ نفسيّةٍ إلى أُخرى، لدرَجَةٍ يَصْعُبُ التّنبّؤُ بِاحتِمالاتِ حُدوثِها أحيانًا. وَإِنَّ هذا التّقلُّبَ في المِزاجِ يستدْعي إشغالَ المرءِ دائِمًا بتوقُّعِ ردودِ أفعالِ الآخرينَ وطُرُقِ مواجَهَتِها.
وَلَيْسَتِ البرامِجُ التّلفزيونيّةُ الواقعِيَّةُ مِنْها والفنِّيَّةُ إلاّ تجسيدًا لهذِهِ الظّاهرةِ. فَلنأخُذْ على سبيلِ المِثالِ بَعْضَ البرامِجِ الحِواريَّةِ الَتي تَدُورُ في موضوعاتٍ خِلافيّةٍ، كَالسِّياسَةِ وَالدّينِ، أَلا نَرَى كيْفَ تَعْلُو حِدَّةُ النِّقاشِ بَيْنَ المُتناظِرَيْنَ أَوِ المُتناظِرِينَ فَتَعْلُو أصواتُهُم وَقَدْ يستَبِدُّ الحَماسُ بِهِمْ إلى إطلاقِ وابلٍ مِنَ الشّتائِمِ والسّبابِ؟!
وَليْسَ هذا فقطْ، بَلْ إنَّ برامجَ المقالِبِ على نمطِ "الكاميرا الخفيّةِ" لتُصوِّرَ لَنَا كيفَ يكونُ سلوكُ العربيِّ الشّرقيِّ النَّمَطِيِّ، ذكرًا كانَ أوْ أُنْثَى، عِنْدَما يُمارَسُ مَعَهُ المقلَبُ، فَنَجِدُ أحيانًا أنَّ المُواطِنَ الضّحيّةَ يَثورُ بِسُرْعَةٍ خياليَّةٍ وَغَيْرِ مُتوَقَّعَةٍ، وَتبْلُغُ ثوْرَتُهُ أحيانًا كثيرَةً حدًّا عَظِيمًًا يشملُ الشّتْمَ وإلحاقَ الإهاناتِ بِالفنّانِ الّذي ينفِّذُ المقالِبَ، وَقَدْ يُقَرِّرُ مُعاقَبَتَهُ عِقابًا بَدَنِيًا أليمًا، حيْثُ كثيرًا ما رأيْنا مشاهِدَ عنيفَةً تتضمَّنُ توجيهَ ضرَبَاتٍ وَلَكَماتٍ متكرِّرَةً لا تتناسَبُ وَحَجْمَ الضّرَرِ الواقعِ على الضّحيّةِ، وَأَحْيانًا يَكونُ الضّرْبُ والشّتمُ موجّهًا لِفنّانٍ كبيرٍ مِعروفٍ بَيْنَ النّاسِ، لا ذنْبَ لَهُ إلاّ أَنَّهُ عَمَدَ إلى تأليفِ وَتنفيذِ مَقالبَ لإسعادِ جُمهورِهِ الحبيبِ!
وَلَسْتُ أُذنِّبُ الضّحيّةَ فَقَطْ في سوءِ السُّلوكِ في برامجِ الكاميرا الخفيّةِ، بَلْ إنّي أُذَنِّبُ أحيانًا مَنْ يَقومُ بِدورِ المُنفِّذِ، حيْثُ يُثقِلُ بِظِلِهِ على المُواطنِ البَسيطِ، وَيُبالِغُ في التّضييقِ عليْهِ، دُونَ مراعاةٍ لمَشاكِلِهِ وَحاجاتِهِ الاقتصادِيَّةِ وَالاجتِماعيّةِ، فلا يكونُ مِنْ هذا المواطنِ الضّحيّةِ، الّذي لا يرَى في واقِعِ حياتِهِ المعيشِ إلاّ أنَهُ ضحيّةٌ قولاً وَفِعلًا، إلاّ أنْ يُبدِيَ سلوكًا هُوَ أقرَبُ إلى العُنْفِ وَإلى انعِدامِ الصّبْرِ وَالتّسامُحِ.
ورُبَّ مُعْتَرِضٍ على ما نَقُولُ يستفسِرُ: "وَلِماذا تَعْتَبِرُ هذهِ المسألَةَ عربيّةً؟ أليسَتْ برامِجُ الكاميرَا منتشرةً في الثّقافاتِ الأجنبيّةِ أيضًا"؟
فنقولُ إنَّ هذا الكلامَ صحيحٌ قطْعًا، بَلْ إنَّ برامجَ الكاميرا الخفيّةِ في الثّقافَاتِ الأجنبيّةِ أكثَرُ عدَدًا وَظهورًا مِنْها في الثّقافاتِ العربيّةِ، لكِنْ يكفي أنْ نشاهِدَ حلقاتٍ قليلَةً مِنْ هذهِ البرامِجِ الّتي أنتَجَتْها التّلفزيوناتُ الأجنبيّةُ، وَخصوصًا الأوروبيّة والأمريكيّة وَالكنديّة، وَأَنْ تُقارِنَها بِحلْقاتٍ مِثْلِها أُنْتِجَتْ في التّلفزيوناتِ العربيّةِ حتّى نعرفَ الفرْقَ الجلِيَّ بيْنَ النّوعيْنِ، وشتّانَ ما بينَ الثّرى والثّريّا!
نَجِدُ أنَّ الضّحيّةَ الأجنبيَّ غالبًا ما يكونُ لطيفًا، هادىءَ المِزاجِ، مُحافِظًا على وَقارِهِ وَرَباطَةِ جأْشِهِ، مُلتَزِمًا قَدْرَ إمكانِهِ بِرَسْمِ ابتِسامَةٍ على شفتيْهِ، كَما نراهُ في غالبِ الأحيانِ لا يفكِّرُ في احتمالِيَّةِ النَّيْلِ مَمّنْ يُنفِّذُ ضِدَّهُ المَقلَبَ. بَلْ نراهُ مُتَقَبِّلًا لِلمَقْلَبِ أصلًا، وَهذا الأمرُ نفتقِدُهُ في البرنامجِ العربيِّ، حيْثُ يبدو المنفِّذُ أحيانًا ثقيلَ الظّلِّ، يتكلّمُ كثيرًا، ويستفِزُّ الضّحيّةَ عَنْ طريقِ الكلامِ، الأمرُ الّذي يمهِدُ الطّريقَ أمامَ معركَة كلاميّة قصيرَة سرعانَ ما يعقُبُها هجومٌ وعِقابٌ بدنّيّانِ لا يتناسَبَان مَعَ "حجْمِ الحَدَثِ"، كما فصّلْنا آنِفًا.
وإذا تابَعْنا مسلسلاتٍ عربيّةً نجِدُ أنَّ قِسْمًا مِنْها يُصَوِّرُ العنْفَ الكلاميَّ، بَلْ وَالجَسَدِيَّ كأمريْنِ مقبوليْنِ وَكسُلوكيْنِ طبيعيَّيْنِ! انظرْ على سبيلِ المِثالِ لا الحصْرِ مُسلسلاتِ البيئةِ الشّاميّةِ، أليْسَتْ تُصوِّرُ الرُّجولَةَ صُراخًا وكلامًا فيهِ الكثيرُ مِنَ التّهديدِ والإنذارِ؟ وَبِغضِّ النّظرِ عَنْ حقيقَةِ كوْنِ هذهِ المسلسلاتِ تجسِدُ واقِعًا كانَ ولا يزالُ موجودًا في المُجتمعِ السّوريِّ، أليْسَتْ بهذا التّجسيدِ ترسِّخُ فكرَةَ أنَّ اكتمالَ الرّجولَةِ لدى الشّابِّ العربيِّ إِنّما تكونُ بِرفْعِ الصّوْتِ فوْقَ صوْتِ الخصْمِ، وَبِفَرْضِ الرّأْيِ عليْهِ وفي التّغلُّبِ عليْهِ جَسَدِيًّا؟ ألا يتصرَّفُ أبطالُ هذهِ المسلسلاتِ عمومًا بهذا الشّكلِ مِنَ الخُشونَةِ وَالعِنادِ حتّى أصبَحُوا أبطالًا؟! وَانْظُرْ إلى رَدِّ فعْلِ هذا "البَطَلِ" الغيُورِ على سُمعَةِ قوْمِهِ وَعشيرَتِهِ وعِرْضِهِ وَأَرْضِهِ عِنْدَما ينالُ مِنْهُ أحدٌ وَلَوْ بواسِطَةِ كلامٍ، أليْسَ يُثيرُ حربًا لا هوادَةَ فيها وَيُقيمُ الدّنيا وَلا يُقعِدُها، وَيُوقِعُ في صُفوفِ أعدائِهِ جرحَى وَصرْعى؟
وَهذهِ المواقِفُ هيَ هيَ ذاتُها الّتي نراها في المجتمعاتِ العربيّةِ في كلِّ مكانٍ، يتمخّضُ عنْها العُنْفُ، وتنجُمُ عنْها المآسي، ثُمَّ نستَغِرِبُ كيفَ حصلَ هذا العنْفُ وَلماذا حصلَتِ المآسي!
إِنَّ المأساةَ أنَّ حِدّةَ الطّبْعِ وفَورانَ الأعصابِ لا تتخطّى مُعظَمَ النّاسِ عنْدَنا، إلاّ مَنْ رَحِمَ ربّي، فلا يُستَبْعَدُ أنْ يتورَّطَ في "معركَةِ الَّذّوْدِ عَنْ حِمى الكرامَةِ" كثيرٌ مِمَّنْ يَعُدّونَ أنفُسَهُمْ يَنْتَمُونَ إلى عِلْيَةِ القوْمِ، وَمُثَقّفي المُجتَمَعِ، وَمربّي الأجيالِ مَنَ الآباءِ والأمّهاتِ وَجُمهورِ المعلّمينَ، وَالمُصلِحينَ الاجتِماعيّينَ، ورِجالِ الدّينِ وأئمّةِ المساجِدِ، وشُيوخِ المُجتَمَعَ الّذين بلغوا مِنَ العُمرِ عتيًّا، يكفي أن يُهيَّأَ للواحِدِ مِنْهُم بِأنَّ كرامتَهُ على المِحكِّ حتّى يُرغيَ وَيُزْبِدَ، وَحُقَّ لهُ، أليْسَ يُنافِحُ عَنْ "كرامَةِ الأُمّةِ المَصونَةِ وَعْن حياضِها المنيعةِ"؟
غيْرَ أنَّنا لا يَمْكِنُ أَنْ نُغْفِلَ حقيقَةَ كوْنِ حرارَةِ الأعصابِ وَحِدّةِ الطِّباعِ سَبَبًا في وُقوعِ الكثيرِ مِنَ الخيْرِ وَلِإِشاعَةِ العَديدِ مِنَ الفوائِدِ في المُجْتَمَعِ العربيِّ. فَبالذّاتِ، بِفضْلِ هذهِ الصّفاتِ تَجِدُ مَنْ يمدُّ لَكَ يَدَ العوْنِ عنْدَما تحتاجُ إليْها، وتجِدُ مَن يقيلُ عثْرَتَكَ بِسُرْعَةٍ، دونَ أنْ تعرِفَ مَنْ يَكونُ وَلِمَ يُتعِبُ نفسَهُ لِأَجلِكَ.
فَعِنْدَما تقصُرُ بِكَ مركَبَتُكَ عَنْ بُلوغِ غايَتِكَ مَثَلًا، فتتعَطَّلُ بِكَ تاركَةً إيّاكَ تُقارِعُ الخُطوبَ على قارِعَةِ الطّريقِ، فإِنّكَ غالبًا ما تجِدُ سائِقًا يسْعَدُ بِنَقْلِكَ بِمركَبَتِهِ إلى حيْثُ تُرِيدُ، وَدونَ مُقابِلٍ، أوْ تجِدُ مَنْ يستَمْتِعُ بِمُحاوَلَةِ إصلاحِ العُطْلِ الحاصِلِ في مركَبَتِكَ.
وَعِنْدَما تَحْتاجُ إلى هاتِفِ أحَدِهِمْ بِسَبَبِ نفادِ بِطّارِيَةِ هاتِفِكَ المحمولِ فَغالبًا يُواجِهُكُ العربيُّ بدماثَةِ خُلُقٍ عارِضًا عليْكَ استخدامَ هاتِفِهِ دونَ مقابلٍ.
وهذا قدْ لا تجِدُهُ بمثْلِ هذا اليُسْرِ المعهودِ عِنْدَ العربِ إذا ما احتَجْتَ إلى غيرِكَ في بلادِ الغرْبِ. وَنَحنُ هُنا نؤكِّدُ على أنَّنا لا نعمِّمُ، في الحاليْنِ، فقدْ نجدُ مَنْ يقدِّمُ العوْنَ وَبِمنتهى الإخلاصِ في بلادِ الغربِ البعيدَةِ عنْ طابَعِ حدّةِ المزاجِ وَحرارَةِ الأعصابِ، وَمَنْ يضنُّ عليْكَ بأيِّ معونَةٍ في بلادِ يَعرُبَ بنِ قحطانَ.
إنّها محاولَةٌ لعقْدِ مُقارَنَةٍ بيْنَ حاليْنِ متناقضَتَيْنِ لحِدّةِ الطّبْعِ وحرارَةِ الأعصابِ المعهودتينِ عنْدَ العرَبِ، فالبلوى فيهما، وكذلكَ العزاءُ.
-
samirد. سمير كتّاني