بها بدأ سيدنا موسى – عليه السلام – رحلته التي أمره بها ربه، رحلة في بحر عميق من الطغيان والعناد والعتوّ، بحر ميت مالح لا حياة فيه، تجوبه طحالب الجهل والعتمة العقلية بغياب شمس المعرفة، بفطرته قال لربه : "رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي". توسّل لربه أن يجعل المعرفة جزءاً متجذراً في كل أبعاد شخصيته المركزية، صدره، أمره، لسانه، قوله؛ لأنه أدرك تماماً أن مهمته لن تكون إبداعية النتاج إلا بهذا العنصر الملكوتي في كون الله الإبداعي، بعيد الإدراك إلّا بأن ترى الله فيه بمعرفتك المستقاة من علم الله.
المتعمق في كتاب الله بحثاً وتمحيصاً، ليكتشف ما كَنَهَ خلف كواليس مدلولاته اللغوية، يرى أن كتاب الله قد أمر جلياً بالرقي المعرفي في شخصية الإنسان بكل أبعادها وحيثياتها، فخالق الكون يدرك تماماً أن هذه الموجودات لن تُدرَك ماهياتها إلا بالمعرفة، ولن تُعرف أسرارها إلا بالمعرفة، ليصل الإسلام إلى حد التفضيل النبوي بين عابد عالم وعابد جاهل كفضل النبي على أحدنا، فالله لا يُعبدُ على جهل، لا يُعرَف ولا يُدْرَك ولا يُرى إلا بالمعرفة، كيف لا وهو يقول للعارف: يا عبدي إذا رأيتني فلا أنت، وإذا لا أنت فلا طلب، وإذا لا طلب فلا سبب، وإذا لا سبب فلا نسب، وإذا لا نسب فلا حجبة. "ففهمناها سليمان" أي فجعلنا صفة الفهم متجذرة في شخصية سليمان ليصبح من ذوي الحكمة الإبداعية في أداء ما عليه، "وكلاً أتينا حكماً وعلماً" لتصب في نهر المعرفة الإلزامية لكل من هو كائن ليكون هادفاً رانياً لإغلاق ثغر هو عليه.
ذاك طفل أنيق بريء برتابته الفطرية، تراه يحبو للأشياء دائماً، يلمسها يقلبها يشمّها ثم يأخذها إلى مختبر فمه ليعرف خصوصيتها وطعومها وماهيتها، أي فطرة هذه، وأي خَلْق هذا الذي برأ ذلك الطفل ليسعى للمعرفة والاستطلاع كأول عمل في حياته؟ إنه حب المعرفة وقود أقلاع طائرة حياته، هو ذات الوقود الذي زوده جبريل للنبي الأعظم صلوات الله عليه للاقلاع برسالة ربانية سادت الكون علوّاً ونهضةً ورقياً، بتلك الحروف الثلاثة الآمرة التي أقامت حضارات وامبراطوريات لا قبَل للآخر بها.
حين يكبر الهلال بدراً، تخجل النجوم حضرته وتغار من سطوعه، يصمت ابن آوى لاكتماله في السماء، وتعتزل العاشقة دموعها لتكحل روحها بهذا الجمال الليلي، فمن هلال رضيع إلى بدر مكتمل يبهر الوجود و يكسر عتمة الليل، هذا إن كان البدر مشبعاً بالفكر والعلم فسيكون لرونقه بهجة خاصة، فما معنى الجمال إن كان العقل متصدعاً من زلازل التفاهة متحطماً من كوارث بيئية محيطة به وفيه؟
إن الناظر بعين ناقدة نهضوية، سيجد مدى القحط المعرفي والجفاف الفكري والتصحر الثقافي في عقول شبابنا، من علو الطائرة وعلى ارتفاع شاهق وقبل أن تحط في مطارهم، ستدهش من جمال الأرض التي تبدو لأول وهلة أنها خصبة يخرج منها أطيب الثمر وأجود الورد، وما أن تطأ قدماك أرضهم، تصدم بالفوهات والثغرات التي تملأ المكان، تمتد يدك لتقطف ثمرةً أغرتك باكتمال نضجها، لتجدها مأوى لآفات هندستها من الداخل كما تشاء، وهذا هو تشخيص شبابنا، تغرك مظاهرهم يرتدون أجمل الثياب ويتعطرون بأغلى العطور، ويتمرسون في ابراز أنبل الكلام، وعند أول مطب نقاشيّ ستسمع قرع أدمغتهم الفارغة , ومدى الفراغ الذي يستحوذ أفكارهم المنغرسة في شخصياتهم السايكوباتية.
الثقافة المعرفية مفهوم يغم على الكثير، فهناك خلط واضح بين مفهوم التعلم والتثقف، وشتان ما بين المفهومين، أن تكون مثقفاً بريح معرفية دينية يعني أن تكون صاحب رؤية وكلمة ورائد حرف، يعني أن تنكب على كل ما هو جديد وتلتهمه بغض النظر هل يخدمك في تخصصك أم لا، أن تكون ثائراً لا ترضى بالقليل من المعلومات، متمرداً على كل الأنظمة التي تكبح رغبتك في التعلم وتضع حدوداً لإبداعك الفكري، أن تكون معرفياً يعني أن تحلق كالنسر وتخترق الغلاف الجوي وتعبر الكون لتكتشف المزيد.
سيعتلي الربيع بوح هذي الروح، حينما تروى من ماء المعرفة الفرات، ستنتصرون داخلياً على كل المعارك وستعلو راية التحرر على كل الأفكار العبودية التي يروج لها والتي تسلب وتنهب عقول الشباب وتزرع فيهم أشواكاً ليزدادوا تصحراً فوق تصحر، ومن خلال المعرفة فقط ستظهر مقومات النهضة الحقيقية جلياً، وستشنق كل الدعايات الشرقية قبل الغربية التي تروج صورة النهضة والتقدم بطريقة عكسية، فمن قال أن النهضة تحقق بذلك الذي يمسك ميكرفوناً ويصدح بالتفاهة علناً ويصفق له جمهورٌ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة؟ من قال أن التقدم بالتمايل والتراقص أمام كاميرات التصوير والمجاهرة بالفسق؟ من قيّد مفهوم الرقي بجمال الشخص الخارجي وملبسه؟ من قال أن الثقافة عمادُها كم مسلسل وفيلم حضرت، وكم أغنية ماجنة بصمت، وكم من فنان عرفت؟ إنّ الثقافة المعرفية أرقى من كل هذا، مترفعة عن كل ما هو منحط دوني، فلماذا أنزلتموها إلى الدرك الأسفل من السخافة ؟
لقد نبغ الأدباء والعلماء والفلاسفة ممّن قبلكم في زمن كان فيه الوصول للمعلومة كالوصول إلى كوكب بلوتو، عنوانهم :
وما استعصى على قوم منال .... إذا الإقدام كان لهم ركابا
فبالرغم من وعورة طريق العلم والاستزادة المعرفية، ورغماً عن عواصف الجهود التي تبذل من أجل استنباط المعلومة، رأينا البشر قد نبغت وقد علت ونافست السحاب علواً وأغدقت على البشرية بالخير والتقدم، ونلاحظ أن عالم ذاك العصر المنقرض، قد أبدع في عدة مجالات، فهذا ابن سينا الذي كان عالماً، طبيباً، فيلسوفاً، وشاعراً، هذا العملاق الذي أثبت أن العلم والأدب لا ينفصلان اطلاقاً، بل هما وجهتان لعملة واحدة وهي عملة التقدم والازدهار والعلياء. بالمقابل، وفي وقتنا الحاضر، نجد التكنولوجيا قد رصفت طرق العلم، ونظّمت بالإشارات الإلكترونية طريق الوصول للوجهة المقصودة بسلام وأمان، بضغطة زرّ وأنت متمدد على سريرك بكل راحة تصل للمعلومة، تجوب العالم وتعبر القارات تغوص في المحيطات وتصطاد من سمك المعرفة ما تشاء بل تخترق الكون وتحط على نجمة وتسافر الى زحل. تصلنا المعرفة على طبق من ذهب، فندفعها بعيداً ونرفس كل هذه التسهيلات ونزداد عناداً ورفضاً للتقدم، ونلتهم كل ما هو عفن وفاسد، لنزداد مرضاً واحتضاراً في زمن لا مكان ولا زمان للمرض المعرفي فيه.
"منطقة مغلقة عسكرياً" جملة تنطبق على حال مكتباتنا، أستغرب ترى هل توجد ألغاماً تهدد حياة الإنسان في هذا المكان؟ لا لا عذراً .. نسيت أنه مكان قد أصبح تقليدياً خارج الموضة، ونسيت أنه ليس بحانة خمر ولا مرقص تجدون فيه متعتكم وراحتكم. تدخل المكتبة، فتجدها غارقة في الصمت، تسبح الكتب في الغبار الذي تراكم عليها من فرط الهجر، وتتساءل لماذا التحف التي تعرض في واجهات المحلات تلمع، والكتب تحمل على كتفيها أرطالاً من الغبار والزمان؟ شيء مبكي، محلات بيع الأشرطة والأفلام تعج بالزائرين والمشترين، أما بائع الكتب، لا زال ينتظر منذ أسبوع دخول أحد المشترين إليه، زمن يعج بالهيفاوات والنانسيات والشيرينيات، فلا تطالبون رجلاً محمدي الطباع، فالشياطين لا تلتقي اطلاقاً مع أطهر البشر. !
المجتمع الذي يعاني جلُّ أفراده من متلازمة نقص المعرفة المكتسبة هو مجتمع غير قادر على صناعة المصداقية الذاتية في التقييم الصائب واتخاذ القرار الرشيد والقول الحميد، تبقى كلمته دائماً أسيرة أدراج البيروقراطية العفنة وفقاً لقرار صاحب القرار الدكتاتوري. سادتي، إن شمس المعرفة مطلب حياتي لا تسير عجلة الحياة دونه بدءاً من الشخصية الفردية لكل فرد وانتهاءً بمجتمع ضخم يغلب على كاريزميته نور المعرفة، فكل أنواع الكاريزما الثلاثة عشر التي ذكرها د. دو لانج في كتابه "الكاريزما" تندرج تحت مظلة كاريزما المعرفة دون أدنى شك، لتبرعم لنا كل أنواع الكاريزما التي تكتمل الشخصية بها، لابد أن نكون مكتملين معرفياً، مشبعين قدر الإمكان بالعلم لينشأ مجتمع معرفي يميز بين الغث والسمين في أدق مناحي حياته.
أن نسعى للانسجام من وراء نجمنا .. على الرغم من أننا مختلفان .. لكننا بكاريزما شمس المعرفة نتفق .. تماماً كأي نقطتين من الماء، لديها طابع كاريزمي مشترك يؤول لالتقائهما. يؤنسنا كلام القائل:
قلوب العارفين لها عيونٌ .... ترى ما لا يراه الناظرونَ.
وأجنحةٌ تطير بغير ريش .... إلى ملكوت رب العالمينَ.
تخيّل كيف تكون معاملاتنا بالمعرفة، كيف يكون كلامنا بالمعرفة، كيف تكون علاقاتنا بالمعرفة، كيف تكون حياتنا بالمعرفة، نور على نور يشع قبساً من النهضة والتقدم والرقي. من الآن، إبدأ بنفسك وكن أنت رائد التغيير في أرض خلقت لإعمارها والنهوض بها لا لتدميرها وافسادها بأفكار سمية تنفث من عقول سوداوية، عندما تكون صاحب كاريزما معرفية، تأكد أنك لن تغادر هذا الكون، فبصمتك وابداعك سيخلد اسمك وستكون منبرا للحياة والحلم والحب.
عباس مسالمة – رغد خميس / 25. رمضان.1435