(التاريخ)
كلمة لها صدى عظيم في النفوس , فهي الأمجاد السالفة التي يتفاخر بها الناس , و التجارب الإنسانية التي مرّ بها البشر , و اللحظات التي توقّف عندها الزمن , و لعظمة هذه الكلمة يستخدمها السياسيون لإضافة الأهمية على ما يقومون به من أعمال فيطلقون على حَدَث ما (الحَدَث التاريخي) .
و تُعَد قراءة التاريخ غريزة فطرية في الإنسان سواء على المستوى الشخصي ليعرف تاريخ أسرته أو على المستوى العام ليعرف تاريخ شعبه . لكن المشكلة تكمن في أن معظم كتب التاريخ إمّا أنها أكاديمية بشكل يُنفّر القارئ منها أو تركّز على الحكّام دون النظر إلى المحكومين , و هو ما قد يجعلك تشكّل صورة كاملة عن حياة القصور لكنك لا تعرف ما يدور في الشوارع .
و قد إلتفت عدد من الأدباء إلى هذا الأمر فقاموا بإبداع الروايات التاريخية التي تصف حياة الناس في البيوت و الأسواق , و هذه 5 روايات تحكي عن حياة الناس في عصور سالفة .
* الطنطورية (رضوى عاشور)
تذهب بنا رضوى عاشور إلى قرية الطنطورة الفلسطينية الواقعة جنوب حيفا عام 1947 , حيث تصاحبنا في هذه الرحلة رقيّة الطنطورية التي عاشت مأساة المذبحة التي تعرّضت لها قريتها على يد العصابات الصهيونية عندما كانت طفلة و إضطرت للنزوح مع الناجين من قريتها للبنان , حيث تصف لنا حياتها في فلسطين قبل الإحتلال و تفاصيل حياة اللاجئين في لبنان بعد النزوح من فلسطين و حالهم خلال الأزمات التي مرّت بها لبنان مثل الحرب الأهليّة و الإجتياح الصهيوني لجنوب لبنان 1982 , كل ذلك في قالب أدبي جميل لفترة تمتد لأكثر من نصف قرن .
* النبطي (يوسف زيدان)
من منّا لا يعرف قصة فتح الشام و مصر في عهد عمر بن الخطّاب –رضي الله عنه - ؟! بالتأكيد كلنا نعرفها و نعرف كيف سارت الأمور بعدها , لكن كيف كانت تسير الأمور قبل الفتح !
يطير يوسف زيدان بالزمن و يعود للعشرين سنة السابقة لدخول الإسلام للشام و مصر حيث مارّية تلك الفتاة المصريّة التي تعتنق و أسرتها الديانة المسيحية و تصف لنا الرواية تفاصيل الحياة اليومية للمصريين في ذلك الوقت , حتى يجيء رجل نبطي من شمال الجزيرة العربية ليخطب ماريّة و يأخذها معه لبلاده حيث تعيش هناك وسط الأنباط و تتعرّف على هذا المجتمع الغريب عنها , و تمر السنون على ماريّة حتى تتنامى إلى مسامعها أخبار ظهور نبي في الجزيرة العربية يُسمّى مُحَمَّد – صلّ الله عليه و سلم – و تتوالى الأحداث حتى يصل الإسلام في عهد عمر بن الخطّاب إلى الشام و مصر , و نتابع مع ماريّة التطورات التي حدثت لهذه البلاد بعد دخول الإسلام إليها .
* ثلاثية غرناطة (رضوى عاشور)
عودة إلى رضوى عاشور , لكن هذه المرّة تحلّق بنا إلى الأندلس , لكنها ليست الأندلس الزاهرة التي نحنّ إليها , بل أندلس الإنكسار و السقوط , إلى غرناطة حيث الأفول الأخير لدولة المسلمين بعد 800 عام .
تدور الأحداث حول عائلة أندلسيّة تعيش في غرناطة بعد سقوط باقي الممالك الإسلامية في الأندلس في أواخر القرن 15 الميلادي , حيث نتابع تفاصيل الحياة في غرناطة الواقعة تحت حصار القشتاليين بعد تسليم أبو عبد الله الصغير (آخر ملوك المسلمين) المدينة لهم , و كيف حاول المسلمون الحفاظ على دينهم و هويتهم حتى ضاق بهم الشقتاليون و أمروا بترحيل باقي المسلمين إلى المغرب العربي .
* الزيني بركات (جمال الغيطاني)
يبدو أن شغف الروائيين بمرحلة الـ (ما قبل) لا ينتهي , فبعد أن رافقنا رضوى عاشور في مرحلة ما قبل سقوط فلسطين في الطنطورية و ما قبل سقوط الأندلس في ثلاثية غرناطة , و رافقنا يوسف زيدان في ما قبل الفتح الإسلامي في النبطي , يرافقنا الآن جمال الغيطاني في مرحلة ما قبل دخول العثمانيين لمصر .
لكن يختلف الغيطاني عن الباقين أنه يقودنا لمعرفة تفاصيل الحياة اليومية للمصريين خلال الأيام الأخيرة لحكم المماليك من خلال أحد رجال السلطة و ليس أحد العامة , من خلال الزيني بركات .
و الزيني رجل من العامة قاده طموحه ليصبح أحد رجال السلطة , يحبّه الناس و السلطان في آنٍ واحد و هو أمر لو تعلمون عسير .
المميّز في هذه الرواية , أن الزيني يتجوّل بين العامة ليطّلع على أحوالهم فيُعلمنا حياة العامة , كما أنه يتجوّل بين قصور رجال السلطة بإعتباره واحد منهم فيُعلمنا حياة الحكّام , و بالتالي في نهاية ستجد نفسك مثلمّاً بتفاصيل حياة العامة و الحكّام معاً .
الزيني يبدو في ظاهره الصلاح لكن هل باطنه مثل ظاهره ؟! عندما تقرأ هذه الرواية ربما تجد الكثير من التشابه بين الزيني و بعض أفراد السلطة في الدول العربيّة .
* لقيطة إسطنبول (إليف شافاق)
ننتقل الآن إلى مكانٍ بعيدٍ عن مجتمعنا العربي , نطير هذه المرة إلى تركيا .
حيث تأخذنا إليف شافاق في رحلة متعددة الجهات , فتتجه مرة إلى تركيا المعاصرة حيث عائلة قازنجي التركية الأصيلة التي لم يتبقَ منها سوى النساء و ولد وحيد يعيش في أمريكا , و تتجه بعد ذلك إلى أمريكا حيث آرمانوش تلك الفتاة ذات الأصل التركي الأرمني التي إضطرت عائلتها للهجرة قديماً إلى أمريكا هرباً من مذابح العثمانيين للأرمن عام 1915 , حيث تنتقل بنا إليف بين أمريكا و تركيا و بين الحاضر و الماضي لتخبرنا عمّا جرى للأرمن على يد العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى , و تحكي أيضاً عن أحوالهم في الغربة بعد الهجرة من تركيا خوفاً من الإضطهاد , و تحكي عن علاقة الأتراك بالأرمن حالياً .
إنّ هذه الروايات و أمثالها وصف أدبي راقٍ لقصص حقيقية حدثت في الماضي تجعلك تستمتع باللغة و الجمال و دقّة التعبير و في نفس الوقت تستخلص العديد من المعلومات عن هذه الأزمنة و الأماكن كأنك تعيشها بجسدك و روحك .
إن قراءة الروايات ليست مضيعة للوقت , لكن الخطأ أن يقتصر الإنسان في قراءاته عليها , و الخطأ الأكبر أن يظن القارئ أن الروايات التاريخية بديل عن قراءة كتب التاريخ .
-
عمرو يسريمهندس مصري يهتم بقراءة التاريخ وسِيَر القدماء. أرى أن تغيير الحاضر، والانطلاق نحو المستقبل يبدأ من فهم الماضي.