لم أكن أعتقد أن رحلة مقدارها ثلث الساعة في المترو قد تشغل تفكيري لهذا الحد; حين إقترب مني رجل يبدو من شكله أنه في أواخر عقده السادس، كنت قد قررت أن أترك له مكاني ليجلس، إلا إنه رفض ثم قال بلطف "المكان ياخدنا إحنا الإتنين" ثم جلس. و بصنعة لطافة مصرية خالصة بدأ معي حديثًا لا أذكر كيف بدأ لكني لن أنسى كيف إنتهى. " أنا كنت زيّك ودخلت الجيش زمان .. كنت في السويس وماكنتش بعرف أكلم أمي ولا إخواتي .. أبويا الله يرحمه مات قبل ما أدخل الجيش على طول .. أنا كنت صغير لسه وعيل وأخويا الكبير هو اللي شال البيت كله .. إنت بتقرأ؟ .. ماشاء الله أنا بردو بحب القراية وعارف يحي حقي و توفيق الحكيم .. بس بقالي فترة ماقريتش حاجة .. إنت نازل فين؟ .. آه بعدي بمحطتين .. ربنا معاك يابني هيعدوا والله .. هو بس وداع صغير ولازم هتعدي عليه" .. وداع صغير!!!
إستوقفتني الكلمة .. يعني إيه وداع صغير؟!
" يعني إحنا ماشيين مقضينها وداعات، بنودع مراحل في عمرنا وبنودع أيام و شهور، وبنودع حكايات كانت ممكن تكمل وسيبناها لغيرنا يكملها، بنودع وظايف و محطات مترو، بنودع الفلوس اللي بتطلع من جيبنا، بنفضل كده لحد ما نودّع الوداع الكبير .. فهمت؟! "
حاولت قدر إستطاعتي ألّا أبدو مستغربًا حديثه، وأن أستمر في دور المثقف القارئ الذي رسمه لي منذ دقائق وبإبتسامة مبتورة هززت رأسي ولم أتكلم .. ولست أدري لحسن الحظ أم لسوءه كان قد وصل لمحطته .. فسلّم عليَّ ودعى لي و ودعني وداعًا صغيرًا ومضى.
كل اللقاءات مهما كانت طويلة فإنها عابرة، ستنتهي، سنفترق، سيتخذ كل منا طريقه لا نعلم متى سيجمعنا اللقاء مرّة أخرى، هكذا تسيرُ الأمور، أما أمر تقبل تلك الحقيقة فهو متروك لنا، وكعادتنا في إخفاء حقائق الأشياء أو تلوينها، نعتقد أن وجودنا دائم، و أن لقاءنا مرة أخرى أمرٌ لا بديل عنه!. لا يفعلُ بنا هذا سوى الأملُ، لا يدفعنا إلى تمرير الأيام سوى أملُ في أن الأيام القادمة تحمل خيرًا، وأن الغائب سيعود، وأن تلك المرحلة ستنتهي وتصبح بعدها الأمور أفضل، أو كما قال فؤاد حداد " كل الخلايق في الأمل عُشاق".
إلى رفيق المترو، قد لا تجمعنا الأيام مرة أخرى، لكنني لن أنسى أن وداعًا صغيرًا قد غيَّر نظرتي لهذا الحد.
-
محمود عزوشغوف بالسينما ومُدمن للقراءة، أكتب مقالات قد تعتبرها أنت تافهة. فاهدأ