عقدة الكتابة
لا تكن كاتبا ، الكتاب يعانون كثيرا ..
نشر في 29 غشت 2018 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
حين تسألني عن أحب الهوايات إلى قلبي سأخبرك الكتابة ، أما أبغضها فأيضا الكتابة ، قد لا يكون الأمر منطقيا بعض الشيء ، ولكن إن كنت كاتبا ستفهم ذلك - ربما - ،حسنا قد لا يبدو الأمر عقدة خطيرة كتلك الخاصة بأوديب أو إليكترا - وحتى هاتان تشكلان مرحلة من النمو الفسيولوجي الطبيعي للانسان وأستغرب كثيرا لم قد أطلق عليهما لفظ عقدة - ولكن بالنسبة لي فعقدتي هي أعمق وألطف ، من النوع الذي لا يزعجك وجوده ، الأمر مماثل لسجين طال حبسه حتى أعتاد العزلة والقضبان ، بل ألفهم ، حتى أنه إن تنسم عبق الحرية يوما سيتوسل إليك لكي تعيده ، لم تعد تزعجه القضبان ، إنها حريته الحقيقية ، وهكذا الكتابة ، أن تقع تحت تأثير سحر لا تريد لمخلوق أن يبطل مفعوله ، لقد كانت الكتب مخدرات لكاتبنا العظيم احمد خالد توفيق ، أما أنا فالكتابة هي مخدري ، ذاك الذي أتعاطاه لأسكن الألم كلما التهب بالداخل ، هكذا فقط تسلم نفسك لهذه الأوراق وتتجرد من كل زيف ، لا أحكام ، لا ضغوط ، لا نقاش او جدال حول ما تشعر ،وكم أثق بهذه الحفنة من الأوراق أكثر مما اثق بكثير من البشر ، انها لرياضة روحية من طراز أصيل .
إلى هنا قد يستغرب البعض ، مشاعر الحب هذه التي ذكرتها لا تنبئ عن أي عقدة ، فأين المشكلة إذا ؟ ، اذا أنت لا تعلم شيئا عن الانتكاسات الكتابية ، تلك الفترة التي يفقد فيها المرء شهيته للكتابة ، حين تضيع منه الكلمات ، حين لا يعرف طريقا لوصف ما يشعر به ، عقله فارغ ، هناك غبار من الأفكار ، لكنه مبعثر ، ولا يستطيع الامساك بأي منه ، ولعمرك إن هذا لتعذيب نفسي ، إنه كشعور طفل صغير معدم يقف خلف زجاج عربة المثلجات ، يتأملها ويسيل اللعاب منه ، لكنه لا يجرؤ على الاقتراب منها فهو لا يملك ما يكفيه من نقود -أو كلمات -.
وعلى النقيض أحيانا تكون الفوضى عارمة في عقلك ،وكأن الأفكار تتصارع حتى تطرح أولا ، وجميعها عشوائية ناقصة غير كاملة ، ومهمتك أن ترتبها وتنسقها وكأنك تنسج ثوبا لا تملك خيوطه ،وتلك مهمة لو تعلمون صعيبة.
ثم إن الأدهى أن يكون الكاتب مصابا بداء " المثالية " ، وانه لمرض عضال ، فتجد الناقد بداخله يلجم قلمه كلما خط حرفا ،يكتب سطرا ويمحو اثنين ، مدعيا بأنه حتما هناك الأفضل ، حتى ينتهي به الحال الى اعتزال الكتابة كليا ، ضاربا بعرض الحائط أي موهبة يمتلكها ، هو لا يثق حقا إن كان يمتلك موهبة ام لا ، من هو بجانب مصطفى محمود وطه حسين وتوفيق الحكيم ، بل من هو بجانب ديكنز وديستويفسكي ، مجرد حشرة ، ذرة غبار في مجرات الأدب الثري ، ماتراه يضيف لهذا الحقل الملغوم ؟ ، بل كيف تواتيه الجراة على الاقتراب منه ؟
ثم تأتي المشكلة التالية ، في المشاركة ، ذلك كابوس بالنسبة لنا - أو لي على الأقل - ، أن تشارك أحدهم شيئا خطته يدك ، كأن تسلمه قطعة من لحمك ، هي تعني لك كثيرا لأنها جزء منك ، ولكن بالنسبة له هي مجرد قطعة لحم كغيرها ، سيعلكها لمدة ثوان ثم يلقي بها باحثا عن أخرى ، الكتابة تجعلك دائما مكشوفا للآخرين ، أفكارك ، اعتناقاتك ، وربما بعضا من تجاربك الشخصية ، ثم إنك تقع في الحيرة الكبرى ، ماذا ستكون ردة الفعل ؟ ، ماذا إن لم تصفها بالعمق المفترض ، ماذا لو بدت أجمل في مخيلتك عنها في الورق ، ثم هل من المهم حقا أن يعلم أحدهم بها ، حسنا أنت تعيش في مجرة ضمن ملايين المجرات ، على كوكب ضمن عدة كواكب ، يحمل مليارات البشر ، أتعتقد أن قصتك الساذجة تلك ستحدث فرقا ؟ ثم إن المضحك أنهم لا يرحبون بصداقتك شخصيا في الواقع ، أسيصادقون كلماتك وتجاربك ؟
ولذا دائما ما أقول ان كانت الكتابة بحرا فأنا فيه الزبد ، وان كان للكتاب مقهى فأنا مجرد " صبي" هناك ، قد احتك قليلا بمن يجلسون من الأدباء، فتعلم الصنعة ، لغته ركيكة ، وموهبته محدودة ، لكن لا بأس ، هو يكتب فقط لأنه يريد أن يكتب ، ربما لن يشارك أحدا كتاباته حتى يتقن الأمر جيدا ، ولا يعلم حقا متى يحين ذلك ، ولكن حتى ذلك الحين ، سيظل يكتب ، وحيدا ، في الظلام، مع حفنة الأوراق ، حيث لا أحكام ، لا ضغوط ،لا جدال أو نقاش حول ما يكتب.
التعليقات
https://www.makalcloud.com/post/vrbdmg383
هذا شكري وعرفاني بمعروف صنيعكم.
أحسنت ، وهنيئا لمن أتيحت له فرصة القراءة لمبدعة مثلك.
بإنتظار مقالاتك القادمة
احسنتي موفقة ننتظر المزيد من كتاباتك
بداية موفقة، وبإذن الله ليست الأخيرة، فهذه الرشفة حمستنا كثيرًا لسُقيانا كأسًا دهاقًا
وصفت ما يعانيه الكاتب من تناقضات ..
ابدعت حقا دام سحر قلمك
الكاتب و القارئ و الرسام و اي فنان
ياتي الوقت الذي يشعر فيه بانه لا يريد المزيد
أحسنتِ. في انتظار كتاباتك القادمة.