قبل أن أقطن منطقتي النائية، كنت أعيش في منطقة تعج بالحركة والضوضاء.. تلك التي تثير في النفس أبشع الأحاسيس. أنه لعذاب دائم ومتجدد، كأنني سجينة في أزمنة الدول السادية التي كانت تتفنن في اختلاق طرق التعذيب. كم مرة ثارت أعصابي حتى أنني أوشكت على الصراخ أثناء سيري، وكم مرة اغتلت فيها دموعي كيلا يحسبني الرائي أنني إحدى الفتيات العاشقات التي تخلى عنها حبيبها فتركها في منتصف الطريق. فلن يجيء على بال عابر سواء أكان رجل أو امرأة، أنني أبكي وجودي وسط هذا الصخب المدمر لكل فكرة خارجة للتو من شرنقة الأمل.
"إن المزاجيون لا يصلحون للحياة!" اقتباس قابلني منذ فترة على تويتر. من بعيد يبدو أنه كلام ساذج معمم. أما من قريب فيبدو منطقياً مع بعض التحفظات البسيطة، لأنني من الذين يملكون مزاج متقلب لعين!
ولكن أي تحفظات تلك؟! فصديقتي أخبرتني ذات مرة بصراحة تامة "أنني لا أصلح للزواج!" وهي قالت هذا بكثرة ما أخبرها عن مزاجيتي، فأصدق على قولها رغم الأسى الذي يقطع قلبي "بالفعل، أنني بالكاد أتحمل نفسي!" لكنها عندما تلمح الحزن في عيني تقول مهدئة "بالتأكيد ستجدين شخصا ما يقدر على تحملك!"
أنا لم أستطع تحمل الذهاب إلى المحاضرات، كان الأمر أشبه بالسير على مضمار ملتهب، كل ما حولي يؤؤل إلى الإنهيار لا محالة. لم يكن هناك أي لمعة استثنائية في السماء تمنحني سببا للمضي، ولا أي بادرة تشي بأن هذا الطريق هو محطتي الأخيرة. لم يكن هناك سوى مزاجي بأشباحه العتية وهو يفسد لحظاتي كما شاء له، حتى جاء يوم أخذت فيه قرارا بعدم استئناف دراستي. جاءت الامتحانات، عائلتي شكَّت في صحتي العقلية لأنني رفضت تأديتها. لم يعرفوا أنني بمجرد ما ألغيت فكرة الدراسة ألغيت كل شيء يتعلق بها! فأنا لم أكن مهيأة لأنني لم أذاكر. قالوا لي أكتبي أي شيء المهم أن تؤديها! حاولوا كثيراً معي لكنني كنت صممت على قراري.
استغنيت عن دراستي - ولحسن الحظ أنها كانت دراسة تكميلية - لأنني لم أستطع تحمل أجواءها، فكيف لي أن آمل في انتظار شخص يقدر على تحملي؟!
قبل أن أغادر منطقتي القديمة حرصت على مقابلة الجميع، أغلبهم ظن أنني سأنساهم، بينما في الواقع هم الذين نسوني من ضمنهم صديقاتي القريبات. أخبرتهن قبل مغادرتي أنني سأبقى لفترة بدون اتصال بالانترنت، لأن نقل خط الهاتف يأخذ وقتاً. والمفارقة أنني قلقت عليهن واتصلت بهن. كانتا بخير، بدا حتى أن اتصالي شوش أفكارهن.. ربما لأنني عاتبتهن بصوت مختنق، فالسكون وقتئذ لم يترك لي شيئاً إلا والتهمه. تحايلت على واحدة منهن طلبا للخروج، لكنها رفضت. وبعد مرور عامين تقابلنا ثلاثتنا، لم أصدق أننا حافظنا على عهدنا رغم أنه جيء بالدفع الذاتي! وكم عجبت على مزاجيتي أنها تتحمل مسؤولية العلاقات، ولا تستطيع تحمل مسؤولية يوم واحد!
ثمة فجوات كثيرة تراكمت علي أنا وكل من جاورني، أغلبها مبطن بالعتاب والتجاهل، أما ظاهرها - وأعني عندما نتقابل فقط - نبدو أننا رائعون وفي أحسن حال!
"يكون حراً من لا ينتظر شيء" كم كان عظيما الكاتب نيكوس عندما توصل لتلك المعادلة. لربما كتبها بعد معاناة وصراع طويل خاضه بمفردة، في أقصى زاوية من الأرض، دون أن يسأل عنه أحد، أو يحاول أحدهما الوصول إليه. نحن حتى عندما تجرفنا ظروف الحياة نحو بقاع بعيدة، ستجد أن لكل شخص باب موارب نحو العالم، أنه لا يريد أن يضيع أو يُنسَى بالكلية حتى لو كان يردد هذا طوال الوقت. هو يأمل في أن يعثر عليه أحدهما، ولو رسى الأمر على التلويح بالأيدي من بعيد! لكن عندما تتبخر تلك الآمال، يفقد صاحبنا الرغبة في التواصل، بل ويتوجس من أي محاولة لمخاطبة وده.
الحياة النائية هنا علمتني كما علمت نيكوس، ولو أني - منذ أن لمحت معادلته تلك مذ أعواماً طوال - اعتبرتها منهجا للحياة برمتها. ولكننا نتغير، تتبدل مشاعرنا على الدوام ويحل مكانها النقيض في لمح البصر. وما حل بي مؤخراً هو النسيان.. نسيان غضبي وحساسيتي اتجاه أتفه الأمور، نسيان اجتماعيتي ومبادراتي نحو الناس والعالم، الناس رائعون لكنني ما عدت أحبذ الاقتراب منهم، يكفي أنني أدعو لهم من كل قلبي بالسلام والطمأنينة.
فسلاما من منطقتي النائية.. لكل الذين تجاهلوا نجاحي عن عمدٍ وهم في القلب من الأحبة. سلاما للذين أستشعر بافتقادهم لي دون أن يسألوا عني. سلاما للتي أراها صديقة عمري على رغم تقصيرها الدائم معي. وأخيراً.. سلاما لهؤلاء البعيدين الذين يتذكرونني من خضم اليأس؛ فتحاياكم الروحية تصلني. والتحية هي آخر ما تبقت لي من آمال نحو العالم، غير هذا فأنا لا أريد ولا أنتظر منكم شيئ.
-
Walaa Atallahكاتبة ومدونة مصرية.
التعليقات
ثالثا:جملة"يكون حرا من ينتظر شيىء" اعتبرها فقط مجرد تعبير عن قسوة الانتظار وكأن الانسان سجينا لآماله واحلامه التى ينتظر تحقيقها ولكن واقعيا فلابد أن يحلم الانسان ويفكر ويملأه الطموح والأمل فى الغد ويرتضى بهذا السجن وقيد الحرية من أجل النجاح فى الحياة ويكون له اسم وكيان وقيمة فما معنى ان اكون حرا وفى ذات الوقت بلا قيمة أو أثر فى الحياة ... تحياتى لحضرتك ولكافة الزملاء والكتاب العزاء على المنصة.