بردت القهوة، كيف لا وقد وضعتها في الشرفة منذ أكثر من نصف ساعة وذهبتُ لأقضي حوائج أخرى في البيت. فألهتني عنها حتى نسيت أنني تركتها هناك! بردت كما تبرد الأماني التي لا تتحقق، تلك التي وضعناها على طاولة النسيان في شرفة الحياة المطلة على بحر العمر المتسارع خطواته. تلك التي تآكلت على رف الزمان المنتقم من كل من استسلم لقدر ليس قدره. لقد بردت بسرعة لأن الطقس بارد، أتى في غير معاده هذه السنة. أتى معتقدا أنه سيحل محل الربيع، الغيوم مستقرة في السماء، الرياح مشتده والمطر لازال يقاوم الأرض، لكنه سينزل ليرويها وستتفتح الزهور من جديد. لا فصل يحل محل الربيع، لا فصل يشبهه في تفرده وتمرده. إنه مُلْهِم ومحب، من صفاته حِلم الطَّيبين، وحُلم الحالمين، وجمال لا يقدر بأشجار الدنيا كلها.
ذهبتُ أُواسي قهوتي التي ســـَئـِــمَت انتظاري، اعتذرت من فنجاني فقد كانت تلك اللحظة التي أتقاسمها معه أهم من أي شيء آخر. آسفة يا قهوتي حقك أن تلوميني، فرؤية العالم من الشرفات تتطلب ذهنا صافيا. دعيني اَرْتَشِفُك، حينها سأرى الأفق يقترب مني كلما أطلت النظر إليه. لن أستطيع الإمساك به، هو من سيتمسك بي، حتى أبلغه.
سأشرب القهوة إذن، بعدها سأسبح بين صفحات كتاب كنت قد اشتريته منذ مدة وبقي مهملا على طاولة الغرفة حتى اشتكى من الغبار. لم أكن أجد له وقتا...أو لعلها مجرد ذريعة! ثم لهنيهة سأتصفح مواقع التواصل الاجتماعي لأستقي آخر الأخبار، أعلم مسبقا أن نسبة كبيرة منها زائفة فأقرأها بحذر. حتى التلفاز لم يعد يستهويني، طَلَّقتُه بالثلاثة منذ مدة طويلة وقد كان قراري صائبا. بعد برهة الأنترنيت (التي ستأخذ ساعات) سأفتح حاسوبي لأحاول إتمام العمل الذي بدأته متمنية أن أتمكن من إنتاج شيء مفيد اليوم، لكنني وككل يوم سأترك الصفحة فارغة فراغ روح ضائعة.
كل الأيام تشبه بعضها، حتى أنني فقدت الإحساس بالوقت. ينتابني شعور أنه يمر ببطء لكنني أعلم أنه مجرد شعور لا يرقى لمستوى الحقيقة. الوقت يمر بسرعة في جل الأحوال ولسنا مسلحين لنسابقه بل لنصاحبه بذكاء. ومع أن الوقت الآن متوفر يشتكي الكثيرون وأنا منهم من الملل ومن المكوث بين أربع حيطان وسقف. ربما نسينا أن هناك من يتمنى سقفا يأويه من قسوة الحياة وهول الدنيا ولم يجده حتى أصبحت السماء غطائه الوحيد، علها تكون أكثر رأفة به من البشر.
ومع ذلك فإن الوضع ليس مأساويا لهذا الحد... لكن التساؤلات كثرت: متى ستنتهي الأزمة؟ ومتى ستعود الأمور لنصابها؟ متى ستنتهي الأحاسيس والرسائل السلبية؟ متى ستستأنف الحياة مجراها؟
أعود بتفكيري إلى الوراء، أتذكر مجوعة من الأخطاء الساذجة ارتكبتها ظنا مني أن الوقت سينصفني. لكنه لم يفعل...أعيد ترتيب أوراقي وأراجع حساباتي. أكتشف أن غرور بني البشر وتباهيهم بالمال والجاه والبنين والسيارات والقصور والمناصب...لا يفيد. ما يفيد هو العلم، ولو لم يكن مطلقا (العلم المطلق لله عز وجل) ونحن في مجتمعاتنا أصبحنا نفضل السخافة والسطحية، ونغذي الجهل بالجهل حتى أضحينا عاجزين. أظل متفائلة كالربيع بطبعه، ستمر هذه السحابة كما مرت سحب من قبلها. لكن هل سنستفيد من الدرس؟
انتهى اليوم، الشوارع فقدت صوتها تماما، والأزقة "خاوية على عروشها"...أطللت من الشرفة على ليل يخفي نهارا سيأتي غدا. ثم عدت إلى الداخل، عدت ناجية من أفكاري التي ركبتها كسفينة في بحر هائج اسمه عقلي. وسأركب سفينة أخرى غدا...لا أعلم أين ستأخذني هذه المرة، نحو خيال أم واقع. وما الفرق بينهما فقد أصبحا يتداخلان ويتخاذلان، حتى أن الواقع أصبح يفوق الخيال.