في رفقة "شئ من سيلينا" بسجن مطار هيثرو - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

في رفقة "شئ من سيلينا" بسجن مطار هيثرو

  نشر في 13 يوليوز 2023  وآخر تعديل بتاريخ 14 يوليوز 2023 .

‏‎خواطر من الجو (٢)

‏‎في رفقة "شئ من سيلينا" بسجن مطار هيثرو:

‏‎لم أكن أعلم أننا عندما ركبنا بالخطأ على متن رحلة طيران الأميريكان أيرلاينز التي أقلتنا من مطار مدينة هيوستون لمدينة كوربس كريستي التي تقع في ولاية تكساس على بعد أميال قليلة من حدود دولة المكسيك، لم أكن أعلم أننا كنا قد سافرنا بالخطأ لنفس المدينة التي كانت تقيم فيها المغنية المشهورة سيلينا ذات الأصول المكسيكية، ولم ألاحظ في تلك الليلة من ليالي شهر مايو من عام ١٩٩٥م - والتي قضيناها بفندق "الهوليداي إن" - مدى الحزن الذي كان يعم مدينة كوربس كريستي حيث أنه لم تكن قد مرت إلا أسابيع قليلة على حادث مقتل المغنية سيلينا على يد يولاندا سالديفار رئيسة نادي معجبي سيلينا، ولقد كان خبر حادثة قتلها حديث المدينة بأسرها، بل وحديث أمريكا والمكسيك معا وذلك لشهرة تلك المغنية. بيد أني لم أسمع بها إلا من الصحفية المبدعة غادة عبد العزيز خالد في إحدى مقالاتها بموقع سودانيز أون لاين المشهور، حيث كنت أتابع عبره مقالاتها الرائعة بشغف شديد، ومن إحدى مقالاتها بعنوان "شئ من سيلينا" تعرفت على تلك المغنية الذائعة الصيت آنذاك، والتي لم اسمع عنها البتة بالرغم من إدماني في تلك السنوات للغناء والرقص، بيد أن إدماني وشغفي كان على الأغاني الأثيوبية والإرترية وأغاني قبيلة الولوف السنغالية والراب الأمريكي غير متناسيا لإيقاعات التمتم من ربوع بلادي، مفضلا أكثر ما فضلت حينها أغاني التراث للمغني عبد الكريم الكابلي شفاه الله.

‏‎والشاهد في الأمر أن تلك الليلة التي قضيناها بمدينة كوربس كريستي الحدودية مع دولة المكسيك، كانت من المفترض أن تكون هي الليلة الأولى التي يقضيها أخي عمار بمدينة باتون روج عاصمة ولاية لويزيانا التي درسنا بها المرحلة الجامعية، ولكن أقدار الله شاءت أن نقضيها بمدينة المغنية سيلينا.

‏‎وفي إحدى أيام شتاء عام ٢٠١٨م كنت أمارس هوايتي المفضلة وهي شراء الكتب القيمة من الباعة الذين يفترشون الكتب على الأرض "الفراشة" بالسوق العربي بالخرطوم، فما صدقت عيني وأنا أرى كتاب بعنوان "شئ من سيلينا" وعلمت حينها أن الكاتبة المبدعة غادة عبد العزيز خالد كانت قد طبعت كتاب كامل باسم ذلك المقال الذي كنت قد قرأته من قبل بالإنترنت وضمت معه مقالات أخرى رائعة. فاشتريت الكتاب من غير تردد وحمدت الله أني وجدت مادة دسمة أقرأها على الطائرة في رحلتي آنذاك لمدينة الضباب لندن على متن الخطوط المصرية مرورا بقاهرة المعز. ولكنني كنت في غاية التعب ولم أقرأ الكتاب في الطائرة في رحلتي تلك. بل قدر الله أن أقرأ ذلك الكتاب الرائع بغرفة توقيف مطار هيثرو بلندن والتي قضيت بها ثمانية ساعات بالتمام والكمال.

‏‎فالذي حدث إنني عندما وصلت لمطار هيثرو بلندن وبعد وقوف مضن أمضيته بصف طويل حتى وصلت لموظفة الهجرة التي ستختم لي جوازي الأمريكي وتسمح لي بالدخول لبلدهم، فإذا بها تفاجئني وتسألني وتقول:

‏‎- كيف تحصلت على جنسيتك الأمريكية؟

‏‎فغضبت لذلك السؤال غضبا شديدا، وبما أن تلك الموظفة كانت من أصول هندية وتتحدث الإنجليزية بلكنة (accent) صعبة للغاية، لدرجة أحسست بأن لكنتها تصك الآذان أكثر من صوت إحتكاك الأرقدي بالأرقدين تود بساقية جدي على ضفاف النيل الخالد بكرمة الجمال مسقط رأسي. فمن شدة غضبي من سؤالها، فاجأتها بالسؤال التالي وقلت لها:

‏‎- وكيف تحصلت أنت على جنسيتك البريطانية؟

‏‎- فردت قائلة: أنا هنا لكي أسأل وليس لكي أسأل.

‏‎ثم أمرت لي بالشرطة الخاصة التي أخذتني لغرفة التوقيف بالمطار والذي كان دافئا أكثر من صالة المطار، بيد أن الذي جعلني أكثر دفئا أنني كنت طوال تلك الساعات الثمانية برفقة "شئ من سيلينا".

‏‎وبالرغم من أن الكاتبة غادة مبدعة في كتاباتها إلا أن ذلك لا يمنع من نقدها نقداً إيجابياً، فالله سبحانه وتعالى لم يجعل العصمة إلا للأنبياء عليهم السلام. فالكاتبة القديرة تعتقد من خلال حديثها عن المغنية سيلينا أن بإمكان الغناء أن يجمع قلوب الشعوب مثلما فعلت سيلينا التي جمعت بين قلوب الأمريكان والمكسيكيين لأدائها لأغانيها باللغتين الإنجليزية والإسبانية فصار لديها جمهور غفير من البلدين. وكذلك فعلت شذى حسون التي جمعت بين العراقيين بطوائفهم المتعددة عندما فازت بجائزة إستارز أكاديمي، وأيضا حاول فرانسيس دينق جاهداً بكتاباته الجمع بين قلوب شعبي جنوب السودان وشماله.

‏‎ولكن في إعتقادي أن كل محاولات سيلينا وشذى وفرانسيس دينق ما كانت إلا مسكنات لجراح شعوبهم جعلتهم ينامون تحت تأثير المخدر لسنوات قليلة، وعندما أفقنا نحن السودانيون من أثر ذلك المخدر وجدنا أننا قد فقدنا جنوبنا الحبيب في زمن لم يوحدنا فيه غناء النور الجيلاني عن جوبا وهو من شمال السودان ولا غناء عبد الله دينق على أنغام الطمبور وهو من جنوب السودان، وكذلك لم تفعل كتابات فرانسيس دينق من جنوب السودان. فما زالت الاغلبية تغني وما زالت الشحناء تزداد بين شعوب القطر الواحد ناهيك عن شعوب الأقطار المتجاورة. فأؤلئك مناضلي الفريليمو ما زالوا يتغنون بكفاح سامورا ميشيل بموزمبيق وبنضال حركة فريليمو مرددين:

‏‎شعبي، شعبي

‏‎أفتحوا أعينكم

‏‎وردوا على نداء الطبل

‏‎فريليمو ، فريليمو

‏‎سامورا ماشيل

‏‎لقد حان وقت سامورا ماشيل

‏‎مابوتو ، مابوتو موطن الشجعان

‏‎ستكون أمتنا قريبا موحدة

‏‎ويستمر كفاح موزمبيف

‏‎وما زالت موزمبيق تزداد ضياعاً وتيهاً في القبلية، وها هي الحركات الإنفصالية في شمال موزمبيق بدأت حربها على الحكومة في العاصمة موبوتو. وكذلك ومنذ زمن طويل قال كينيث كاوندا رئيس زامبيا السابق: ستتحر زامبيا وسطر ذلك في كتاب بعنوان: Zambia Shall be Free، ولم نرى زامبيا قد تحررت من قبليتها البغيضة إلى الآن. وكذلك ليبيريا وسيراليون ورواندا كانت قد قضت عليها القبلية المدمرة لسنين عددا. وحتى الدول التي اتفقت على تعظيم عظمائها ومناضليها مثل دولة بوركينافاسو التي عاشت منذ مقتل عظيمها وقائدها توماس سانكارا وهي تتغنى بإنجازاته مرددة:

‏‎سنكارا سنكارا رئيسي

‏‎سنكارا الرجل النزيه

‏‎سنكارا الرجل الذي أتى

‏‎من أجل أفريقيا أفضل

‏‎ولكن ذلك الغناء لم يوحدهم، إنما ما زالت تفرقهم القبلية والتوجهات السياسية. وفي زائير بالرغم من وجود المغنين الذين ينادون بالوحدة والسلام بعد أن انقسمت الدولة لدولتين، فها هو الإنفصالي رجل الاعمال جيين بيير بامبا قائد حركة تحرير الكونغو ينادي بزائير ثالثة ويريد أن ينشق بإقليم كاتانقا كدولة مستقلة. أما في سوداننا الحبيب فما زلنا نتغني بأننا: عربا نحن حميناها ونوبة، وإذا تقدم أحد هؤلاء العرب للزواج من نوبية من شمال السودان لرفضوه. فعلينا أن نكون واقعيين ونواجه مشاكلنا الحقيقية، فإن مشاكلنا أكبر من أن تحل بأهازيج الغناء المخدرة للقلوب والعقول.

‏‎والأهم من ذلك كله أن الغناء حرام في شرعنا، والغاية وإن كانت سامية فإن الوسيلة لا تبررها في ديننا، وإن الذي يوحد الشعوب ويقضي على القبلية والجهوية والشعور بالافضلية هو ذلك الشعور الحار بالعقيدة التي جعلت من بلال الحبشي سيدا كما إن أبو بكر الصديق كان سيدا وبذلك أحس ابن الخطاب عندما علق قائلا عندما أعتق الصديق بلالا فقال: سيدنا أعتق سيدنا. كما أن تلك الأخوة الصادقة النابعة من العقيدة الحارة هي التي جعلت موسى بن نصير العربي يضع يده على يد طارق بن زياد الأمازيغي وبتضافر جهود العرب والأمازيغ فتحوا بلاد الأندلس التي حكمها المسلمون لمدة ٨٠٥ عاما.

‏‎فوالله لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولم يصلح أول هذه الأمة إلا التمسك بهذا الدين الحنيف وأنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والله سبحانه وتعالى هو القائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). ونحن عندما بعدنا عن تعاليم ديننا السمحة صرنا نرى الأفضلية في إنتماءاتنا القبلية والإقليمية والسياسية فصرنا عربا بلا عمر واكرادا بلا صلاح الدين واحباشا بلا بلال وهنودا بلا إقبال، فعلينا أن نعود للتمسك بديننا - الذي فيه حل لجميع مشاكل البشرية - ونحل ما أحل الله ونحرم ما حرم الله، ومن ما حرم الله الغناء بآيات وأحاديث واضحات، والأمن والمحبة بين الشعوب لهو فضل من الله وفضل الله لا يؤتى بمعصية. ولمن يدندنون ويستدلون بقول ابن حزم الظاهري - رحمه الله - في إباحته للغناء، فنهدي لهم رد الحافظ العراقي عليه قائلا:

‏‎وإن سألت عن أمر المعازف

لا تصغ لابن حزم المخالف


‏‎وأجزم بالتحريم أي جزم

والحزم أن لا تتبع ابن حزم


‏‎أما في مطار هيثرو فقد غادرت غرفة التوقيف بعد أن حققوا معي تحقيقا صورياً بعد حبس دام ثمانية ساعات وأنا لم أدري لماذا حبسوني كل تلك الساعات، هل لأنني أشبه أفراد جماعة طالبان بلحيتي الكثة وجلبابي السوداني مع الصديري، أم يا ترى لإنني لم استمتع في الطائرة في رحلتي الطويلة من الخرطوم للندن بتلك المدونة الرائعة من كتابات الأستاذة غادة عبد العزيز خالد، فكان عقوبة منهم لي أن حبسوني لكي أقرأ تلك المدونة ليظل في دوماً شيئاً من سيلينا؟.


‏‎م. حسن زمراوي محمد

الخميس ١٦ سبتمبر ٢٠٢١م

‏‎من على متن طائرة شركة أميريكان أيرلانز من مدينة دالاس لكولومبوس عاصمة ولاية أوهايو

‏IbnZumrawi@gmail.com



   نشر في 13 يوليوز 2023  وآخر تعديل بتاريخ 14 يوليوز 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا