السفر خارج حدود الفيزياء
تأملات إيمانية
نشر في 18 أبريل 2016 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
للحياة في هذا الكون قوانينها الفيزيائية والرياضية الخاصة، التي تحكم أدق تفاصيلها وتفسر اغرب ظواهرها، وأكثرها تعقيدا وغموضا، والإنسان مدعو لاكتشافها، معرفتها،واستخدامها في مسيرته التنموية وفي حياته اليومية. وللآخرة كذالك قوانينها الخاصة الغيبية والمختلفة التي تحكمها... فكما انه من "الشعودة" والسفاهة، بل من غير المعقول ربط كل الظواهر الطبيعية والمادية المحضة بإشارات دينية وتفسيرات غيبية أتى ذكرها في الكتب السماوية أو في العقائد اللاهوتية. فانه ليس من المعقول أيضا الاعتماد على قوانيننا العلمية والمادية البحثة، في تفسير الظواهر الاخروية اللا مادية، كالتي تحدث عنها القرآن الكريم في ما يخص مجموعة من المفاهيم الغيبية كالزمن الازلي والابدي، ومفهوم المكان في اللآخرة، حياة البرزخ،الصراط،يوم العرض، تفاصيل الجنة والنار... وغيرها من الغيبيات التي تقف عقولنا حائرة أمامها.
ففي الحقيقة قصورنا العقلي على استيعاب الكثير من هذه الغيبيات يكمن بالاساس في اعتقادنا بان الحياة الدنيوية والاخروية من نفس الجنس، والحقيقة أنها من جنس مختلف، مادية نعيشها، وغيبية لامادية مقبلون عليها، واقعية نعيش تفاصيلها وافتراضية نتخيلها،او كما يتصور لنا، لكن الخطير في الامر هو أن العكس وارد أيضا وبقوة، فمن يدري قد تكون حياتنا هذه صور تُخلق داخل عقولنا بكل تفاصيلها لحظة بلحظة،ثانية بثانية، ويخيل إلينا فعلا بأننا نعيشها. وقد تكون هذه القوانين التي نفتخر كبشر باكتشافها وفك شفرتها، ليست إلا قوانين تحكم هذه الصور المتخيلة، التي توهمنا حواسنا بانها ملموسة بالفعل. وتشعرنا بماديتها وواقعيتها، رغم أننا على يقين تام بأنه يمكن خداعها، كما أثبتت ذالك تجارب بسيطة. فحواسنا هي فقط من جعلتنا نتخيل أننا نعيش هذه الصور بواقعية تامة. ومن تم نتفاجأ بالحقيقة التي تقول بأن قوانيننا الفيزيائية لا تحكم فعلا المادة، بل الامادة المتمثلة في الصور الافتراضية التي يخيل الينا اننا نعيشها، أما كل ما هو مادي وواقعي فمن المفترض أن يكون هناك في الآخرة بواقعية أكثر إذ يمكننا أنداك أن نعيشها حقيقة مادية لا فقط كما يتخيل إلينا الان.
أتحدث هنا بصيغة" نحن" كفكر وعقل -او الأنا الأعلى بالمفهوم االديكارتي- لا كذوات وحواس لأنني أضن أن العقل هو الوحيد الثابت والمشترك بين الحياتين والعالمين ...فالذات ما هي إلا وسيلة يتواصل بها العقل مع عالمه الخارجي. ،ولكون العقل نفسه الذي من المحتمل ان نتبث به ما نحن بصدده -كونه- لامادي أيضا، فلا أعتقد وجود ذات مادية أخرى في عالمنا الافتراضي هذا غير "الذات الالهية". ولعل هذا ما اشارت اليه الاية الكريمة {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }.
أما السبب الأخر الذي أظن بأنه يجعل عقولنا تصطدم بجدار المادة، هي قصورها على اجتياز هذا الجدار نفسه لتكتشف ما ورائه، فعقولنا في الحقيقة محدودة التخيل والتفكير، لا تستطيع أن تتجاوز عالمنا وتخترق عالم ما وراء المادة، فهي لا تمتلك مفاتيح ذالك، وكمثال على ذالك يمكن تشبيه هذا بجلوسك وحيدا في غرفة بيت مهجور وموحش في غابة متباعدة الأطراف، وإذا بباب الغرفة يُطرق بقوة، نعم أنك فعلا تسمع بأذنيك صوت الباب وهو يُطرق، ومتأكد أيضا من وجود أحدا ما بالباب. ولكن ليس من الممكن أن تتجاوز بعقلك وخيالك الباب لتتصور من الطارق... أهو إنسان، أو حيوان، أو مخلوق من جنس آخر غريب، لم تره من قبل. ومهما كان تصورك للطارق فلا يمكن أن يكون صحيحا مائة في المائة، ليبقى فتح الباب والخروج هو الفعل الوحيد الذي سيثبت صحت ما تخيلته في عقلك. ولكن هيهات أن تصطدم بحقيقة مرة. حينما تتأكد من أن ما كنت تتصوره كان خاطئا بالمرة، حينها قد لا ينفع الندم. وهذا أيضا جواب شافي لمن يحاول أن يتخيل الذات الإلهية، تعالى الله عن ذالك علوا .
فقضية المفاهيم الغيبية في نظري تبقى غيبية خالصة ولا يمكن الإطلاع عليها ولا البرهنة عليها بالعقل التحريبي المحض, وليس بالتسليم الاعمى لمنطوق النص كما فسره بالحرف الاجداد مشكورين عليه، إنما التسليم بوجود جانب غيبي لا يمكن الاطلاع عليه إلا بالتجارب الروحية وبالعقل التجريدي الذي هو عين الايمان.
وبالتالي يبقى الجواب الوحيد الشافي بالنسبة لكل شخص أراد أن يتأكد بالفعل من صحة الجوانب الغيبية في حياته هو خوض تجربة روحية معينة بسلوك معين سيفضى إلى تغيرات وآثار مادية لم تكن موجودة من قبل في حياته. أما التسليم الاعمى للنص هو تقليل من قيمة ونعمة العقل في التميز واستنباط المعاني ومعرفة الحدود التي جعل الله ملكة العقل اساس التكليف باحترامها.
-
محمد تورار || Med Tourarانسان بسيط يحب الحياة....