نظرة جانبية - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

نظرة جانبية

  نشر في 09 أكتوبر 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

أقول لصديقتي حينما دار الحديث عن أيام الجامعة، وحينما تحدثت عن مظاهرات الإنتفاضة الثانية، أني أخشى الإفتعال وأنا أتحدث عن تلك الأيام. بالنسبة لي هي كأسطوانة فارغة!إبتسَمَت، قالت أنّ الفراغ أيضاً يحب من يتحدث عنه، هذا إن كان فراغاً حقّاً!

(( كانت المواكب المتدفقة على جادة سان جرمان أو الوافدة من ساحة الجمهورية بأتجاه الباستيل، تسحر لبّه. فالجماهير الهاتفة بالشعارات هي صورة عن أوروبا وتاريخها. فأروربا هي مسيرة كبرى، مسيرة من ثورة إلى ثورة، من نضال إلى نضال، ودوما الى الأمام )) من رواية كائن لا تحتمل خفته_ميلان كونديرا.

كان فرانز، أحد أبطال الرواية، يشعر أن حياته بين الكتب غير حقيقية، كان يلتمس الحقيقة في صخب تلك المسيرات، وذلك كان النقيض التام لموقف (سابينا)، حبيبته.

أيام الإنتفاضة لم أكن قد إلتحقت بالجامعة بعد، كنت في الثانوية، خرجنا في ذلك اليوم من المدرسة والأجواء حماسية. كان حمدي قنديل في برنامجه قلم رصاص يلهب مشاعري، صوته رخيم ناضج و ينضح بثورية شبابية، لايرتدي ربطة عنق عكس أقرانه، عيونه العسلية الحادة، رميه للقلم للرصاص أحيانا على المكتب بغضب حينما يفيض به الكيل، كل ذلك بالطبع كان يدور في عقلي،، وخرجنا، تدور في رأسي أيضاً كلمتي لأمي حينما طلبت مني تغير القناة الإخبارية بسبب فظاعة القتل في الضفة، وقلت "ألا يكفينا أننا لا نساعد" ..

خرجنا من أسوار المدرسة بأعداد كبيرة ومن المدارس المجاورة أيضاً. كانت تليق تلك المسيرة أن تكون على الحدود، كانت تليق بمجاورة أسوار حديدية يقبع خلفها جنوداً متأهبين، لا سوق أسماك وفاكهة بجوار المدرسة!

كان الرجل في السوق يقف أمام عربة الفاكهة الخاصة به، متأهباً لإستقبال فيضان بشري منّا، محذراً أن يقترب منها المتظاهرين المراهقين، وبعد إنقشاع الموجة، أكتشفت أن تخوف البائع كان واقعياً، فالخسائر كانت فادحة فعلاً..

أحكي ذلك الموقف كنكتة، دوماً كانت مثاراً لضحكي أنا والأصدقاء. ولكن أنا أعرف، أعرف تماما، أنها ذكرى ذات نصل حاد، أكسيها بدهان من سخرية أعرفه جيداً. أنا ماهر في تلك اللعبة منذ أمد.

العالم بالنسبة إلى حبيبة فرانز (سابينا) هو مسيرة عملاقة، لا تطيق السير فيها، حتى ولو كانت مسيرة إحتجاج ضد إحتلال وطنها هي نفسها، من قبل السوفيت.

(كانت تود أن تقول لهم أن الشيوعيه والفاشية وكافة أنواع الإحتلالات تخفي في طيّاتها سرّا أكثر شمولاً وخطورة، وصورة هذه السر تتجلّى في مواكب الناس الماشيين في صفوف وهم يرفعون قبضاتهم هاتفين بالمقاطع اللفظية نفسها على نسق واحد) من نفس الرواية.

لطالما كنت أتفهّم سابينا، كنت أقرب لها من فرانز، وبالإضافة الى ذلك، ونظراً لتجاربي، كانت الجموع تضفي على روحي، رغماً عني، شعوراً بالفوضى والحماس المبتذل.

تبنّت صديقتي موقف (فرانز) في جامعتها، وكنت أنا تجسيد (سابينا) في كل مايخص طوابير الوطنية والتطوع والتنظيمات أثناء فترتي الجامعية فيما بعد، ولم يُشغلني فيها إلّا مايخصني وحدي. مارقاً عن أي طابور، ناظراً له جانبياً من الخارج.

كان دخولي كلية القمة نصراً حافلاً، كان إعلاناً لوجودي، كان فخر أبي وجدّي بأنتصاري إعلان صريح بأنّي هنا. إعلان يشبه إعلانات عديدة في حياتي، كانت مستعارة تماماً. علمت ذلك متأخراً جداً.

قبل يوم من الكلية إنتبهت لحقيقة أني لاأعرف أحداً، كنت وحيداً تماماً في أول يوم. أحدق في الناس، كلهم في صحبة، إلّا أنا، يتحدثون ويأكلون، وأنا أمسك جدولاً للمحاضرات، لا أفهم منه إلاّ المواعيد، أتشبث به، وكشكول كبير أستخدمه كقطعة خشب لشخص غارق، تمر بجواره السفن، بقهقة من على متونها وضوضائهم بلا إكتراث. وقلم شبكته في الكشكول من الخارج، أتأكد من وجوده فأرتاح قليلاً. على الأقل معداتي مكتملة..

بعد أيام، الصحبه أصبحت فرداً، ثم فردين ثم زادت. ذلك التسارع في نبضات قلبي على بوابة الكلية إنخفض، وأعتدت الضوضاء، وأستعاد الكشكول تفاهته.

كانت تلك الفترة تمهيداً رقيقاً لتلقي دَفعة رقيقة أيضاً في نهاية العام الأول.

"انا أحبك" تصريحاً أو تلميحاً، يكون الرد بالإيجاب أحياناً وأحياناً يكون " وأنا لا أحبك" ..

فكر معي قليلاً، ضع نفسك في هذا. " أنا أحبك" قد إنطلَقَتْ منك.. تبعها إنتظار ،، فإنتظار،، ثم بعد ذلك حينما تستفسر تكون الإجابة " لقد نسيت الموضوع" ..

للوهلة الأولى كنت ممتناً، أنا لا أريد صفعة الإجابة الكلاسيكية..

في حالة الموت من صدمة قطار عنيفة، أو ضربة برق، أو إنفجار قنبلة، يرتد جسدك بعنف، أجزاء من الثانية سيتركز فيها الألم بشدة، ثم ينتهي كل شئ..

أمّا تسريب أنبوبة البوتاجاز في المنزل هو أنعم الطرق الموت. البوتاجاز غاز أثقل من الهواء، ينساب على الأرض ويرتفع طبقات تلو طبقات، الى أن يصل لحافة فراشك، ثم يعلو رويداً رويداً، بهدوء، يصل الى يديك ويغمرهما، ثم وجنتيك وأنفك، تتنفس بشكل طبيعي، ينسحب الاكسجين وتدوخ في النوم، ثم، ينتهي كل شئ بنعومة، نعومة تنزع منك رد الفعل، تنزع منك رداً مهماً قبل النهاية.

كانت هذه الجملة (لقد نسيت) أرقّ أنبوبة بوتاجاز، نزَعت مني حقي المشروع في الصراخ غضباً ثم النسيان.

ليزا..

أذكر في سيكشن عملي، كانت أول مرة أراها، كانت وافدة جديدة من جامعة أخرى، قصيرة، خمرية اللون، تحمل تحفتين لا عينين، تلاقت أعيننا، ولم أرمش، كان مغناطيساً عملاقاً قد دخل لتوّه، وأكتشفت أن لها صديق، قلت (ياللخسارة) ولكن في داخلي كنت سعيداً، كنت مكسوراً تماماً، فاكتفيت بالمراقبة.

كنت أراقب من بعد، أحدق بجنون في عينيها، مراقبة ذكرتني بصقر قد أقتنيته يوماً ما. غريبٌ هذا، أليس كذلك!

أحياناً يقترن بعض الأشخاص بأشخاص أخرى مرّوا بنا، يشبهونهم في جانب من الجوانب ويكونون إمتداداً لهم، أشخاص بأشخاص، وليس صقور!

كنت أحدق في عيونه لساعة متصلة، كانت مغناطيساً هائلاً، يشع جلالاً، كعيني ليزا.

الصقر له نظرة جانبية، حينما يأكل كنت أتحرك بجانبه، فلا يدير رأسه. يحرك حدقتيه معي فقط، يعرف جيداً أني أراقب، ويعلم جيدا أن ترفّعه عن إدارة رأسه أثناء دوراني حوله يشككني في صحة توزيع الأدوار بيننا، من البالغ فينا، ومن الطفل. وهكذا كانت ليزا.

لم يُدِر الصقر رأسه ناحيتي إلّا مرة واحدة، كان في الشرفة، وإنتهى لتّوه من قضم حبل كنت أقيد به قدمه، ولم أنتبه لذلك، نظر وراءه حيث كنت أقف، ثم حلق بعيداً..

امّا ليزا فلم تنظر لي قط، كانت تحرك حدقتيها معي جانبياً فقط، تتأكد من بصمتها بداخلي، وغادرت جامعتنا ولا أعرف السبب، بدون نظرة مباشرة، كوداع إستحققته.

شرفتي تطل على حديقة كبيرة، في منتصفها شجرة قلّموها بقسوة ثم عادت للحياة وأزهرت بقوة، وشرفات عديدة أمامي، تمنيت يوماً أن تكون شرفة من أحببت، والتي كانت بالجوار، مكان واحدة منهم. وصقر ميت في الحديقة، يشبه صقري القديم، أسفل الشرفة مباشرة. على هذه الحال منذ إسبوعين، مستلقٍ على ظهره، فارداً جناحيه على إتساعهم، ينظر لي وللسماء مباشرة. لم تعد النظرة جانبية فقط، قلت بداخلي "ليزا ترسل التحية، ربما!"

كنت منهمكاً منذ يومين، في العمل على شئ ما على جهاز الكمبيوتر، زميلي بجواري ينظر الى وجهى جانبياً، يقول "واحد .. اتنين .. ممم تلاته.." أستوقفه مستفسراً، يقول أنها شعرات بيضاء ظهرت في جانب رأسي، أضحك قليلاً، وأطلب منه التوقف مازحا. في مرآة الحمام أحدق فيهم جيداً، يثيرون فيّ حزناً، حزنا إكليشيهياً، أعرف، لا بسبب الشعور بإقتراب النهاية في حد ذاته، ولكن لشعور دفين أني لا أستحق هذا، وأن اللعبة ليس من العدل أن تنتهي هكذا، وتلك الصافرة ليس المفترض أن تُحسَب، وأني أريد أن ألعب ثانية، كطفل ساذج بعد أن عرف الطريقة.

ربما لو كنت صُدمت بالقطار بدلا من إختناق ناعم، ربما لو كانت نظرت لي ليزا في عيوني، لكنت أكتفيت من اللعبة، أو لو كنت علمت من البداية أن كليّتي كانت نصر أبي وجدّي، نصرهم هم. أو لربما لحسرتي، لمعرفتي متأخراً جداً، من بعد تخرجي من الجامعة بسنتين، أن بعض مسيرات الثورات تكون مقدسة، حتّى ولو كلّلت رأسي بقشرة من حزن لايزول كعطر قويّ، وأنه كان يمكن ل (سابينا) أن تعيد النظر، خلافا لما ظننته طويلاً.


  • 5

   نشر في 09 أكتوبر 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

مريم منذ 6 سنة
اسلوبك فى السرد له وقع خاص..لكن هنا فى هذا المقال تزاحمت افكارك وفقدت الترابط .احيانا يحتاج القارئ التركيز على فكرة واحدة قد تتناولها من عدة طرق ولكنها تبقي فكرة.وذلك حتى ينسجم مع مشاعرك وما تحس به.لكن عندما تتدافع الافكار فى حيز صغير كمقال..لن يسعفك اسلوبك مهما كان ساحر .
ورغم عن ذلك راقنى مقالك وكل الافكار به.
لا حرمنا قلمك.
0
لؤي أحمد
مريم.. برجاء قرايته تاني, هو كان درافت بدون تنقيح, أعتقد كده ممكن يكون أفضل وأكثر ترابط شويه.. والقارئ يحكم
تسلمي
محمود حافظ منذ 6 سنة
اسلوبك فى الكتابه جذاب ورائع..تحياتى
0
لؤي أحمد
ممتن والله
ابو البراء
ارى ان السرد كان رائع والترابط كان متقن احسنت

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا