من المؤكّد أنّنا جميعا واجهنا هذا السّؤال في يوم من الأيّام. فما هي اللّغة؟
جاء هذا اللّفظ من لغا يلغو، و اللّغا هو الصّوت. مصطلح مأخوذ من كلمة "لوغوس" اليونانيّة و معناها "الكلمة". يوجد اليوم حوالي سبعة آلاف لغة حيّة. و اللّغة الحيّة هي اللّغة التي لا تزال متداولة بين عدد من النّاس، أمّا اللّغة الميتة فهي التي تلاشت من على الألسن و لم يعد يتحدّث بها أحد، كاليونانيّة و الإغريقيّة مع أنّها كانت من أقوى اللّغات في العصور الغابرة. ببساطة اللّغة هي الكلام المصطلح عليه بين كلّ قوم. لكن هل الموضوع بهذه البساطة فعلا؟
اللّغة هي تلك اللّعنة التي لا نستطيع العيش بدونها. تلبس عدّة أثواب، فتكون إمّا بالصّوت أو بالإشارة أو اللّمس و حتّى بالنّظرات و أحيانا الرّقص! فكما نجد اللّغة الملفوظة و المكتوبة، نجد أيضا لغة الجسد التي تكشف عن الكثير ممّا لا يقوله الإنسان بطرق أخرى.
« Nous sommes tous prisonniers de la langue, comme une mouche dans une bouteille d’eau ! »
"كلّنا سجناء اللّغة كذبابة داخل زجاجة!"
مازلت أذكر هذه العبارة التي قالها أستاذ الفلسفة منذ سنتين، و كيف أنّنا ضحكنا جميعا من هذا التّشبيه الغريب، و نحن نتخيّل رؤوسنا على أجسام ذباب ترتطم بجدران اللّغة كلّما حاولت الهروب منها!
لم أحسّ بوقع تلك العبارة إلّا بعد أن حوّلتها في رأسي إلى اللّغة العربية، كما كنت أفعل في بداية عهدي بتعلّم اللّغات الفرنسيّة و الإنجليزيّة و الإسبانيّة. ثمّ تفطّنت إلى أنّني لا يمكنني إتقان لغة ما إلّا إذا فكّرت بها! و بدأت علاقتي مع اللّغات تتغيّر كلّما ازداد اتقاني لها. قال بيير لاروس الذي تحمل المعاجم الفرنسيّة اسمه، أنّ "اللّغة هي استعمال الكلام للتّعبير عن الأفكار". لو أخذنا طفلا صغيرا على سبيل المثال، نرى أنّه كلّما اكتسب مفردات أكثر كلّما زادت قدرته على التّعبير عمّا يحسّ به أو يريده. لذا كلّما زاد عدد اللّغات التي يجيدها الفرد كلّما توسّعت مداركه و زادت أفكاره. ذلك أنّ اللّغة غالبا ما تتماشى مع المحيط الذي تُستعمل فيه، فنجد لغات و لهجات و استعمالات مختلفة باختلاف الأقطار و الأمصار. و نجد كذلك مستويات متفاوتة، فإذا قمنا بمقارنة لغة شابّ من الأحياء الشّعبيّة الفرنسيّة بلغة أستاذ في الجامعة، فإنّنا حتما سوف نلاحظ اختلافا كبيرا، من حيث الألفاظ المستخدمة و حتّى نبرة الصّوت.
تشكّل اللّغة أحيانا قيدا، فما نرى أنّه من السّهل التّعبير عنه بحرّية مطلقة بلغة ما، يكون من الصّعب جدّا التّعبير عنه بلغة أخرى. لا يرجع ذلك إلى غياب المفردات أو قلّتها و لكنّه بسبب الأفكار و المعتقدات التي يفرضها المجتمع على اللّغة، أو بالأحرى على طريقة التّفكير.
أمّا علاقة الفرد بلغته الأمّ فهي علاقة معقّدة و غريبة. في غالب الأحيان، لا نقدر على التّعبير عما نحسّ به بشكل كامل إلّا إذا استعملنا لغتنا الأمّ، و خاصّة عند الغضب الشّديد أو الفرح، حيث يتوقّف العقل عن التّفكير بمنطقيّة و يتصرّف بعفويّة أكبر، لذا لا يملك وقتا كافيا لاختيار واحدة من اللّغات الأخرى التي يتقنها لأنّ ذلك يتطلّب تركيزا أكبر، فتخرج اللّغة الأمّ بتلقائيّة. أمّا في الحبّ، لغة واحدة لا تكفي للتّعبير عمّا نشعر به، و مع ذلك تخرج كلمة "أحبّك" باللّغة الأمّ أصدق و أعمق و أشدّ تأثيرا، خاصّة حين يتكلّم الطّرفان نفس اللّغة، أي أنّها تقرّب بينهما أكثر، و تصبح وسيلة للحبّ.
"اللّغة الفرنسيّة حاجز بيني و بين وطني أشدّ و أقوى من حاجز البحر المتوسّط و أنا عاجز عن أن أعبّر بالعربيّة عمّا أشعر به، إنّ الفرنسيّة لمنفاي." مالك حدّاد
جعلتني مقولة مالك حدّاد هذه أشعر بثقل الخيبة التي تأتي بعد أن يعجز المرء على ترجمة أفكاره بسبب عدم إتقانه للغة و كيف يكون إحساس الغربة بشعا في غياب اللّغة الأقرب إلى القلب. يحزنني أنّ كاتبا في قامة مالك حداد حُرم من لغته الوطن! لكنّ إصراره على عدم الكتابة بغيرها لم يفاجئني كثيرا، بل يدفعني إلى التّغزّل بجمال اللّغة العربية التي تعتبر من اللّغات السّامية. أي إنّها كانت متداولة منذ العصور القديمة، حيث كان العرب يتكلّمون بها على السّليقة، دون قواعد أو ضوابط تحكمها. كما قد لاحظ بعض الباحثين و علماء النّفس أنّ للّغة العربية قدرة عجيبة على تهذيب النّفس و الاتّزان. أنّ ارتباطها بالدّين الإسلاميّ و القرآن الكريم جعل لها قداسة و هيبة خاصّة، كما كان الحال مع العبريّة التي تعرف بكونها من أقدم اللّغات و كانت تعتبر لغة أهل الجنّة في الدّيانة اليهوديّة.
تطوّرت اللّغات بعد ظهور الكتابة التي جاءت هي الأخرى كوسيلة للتّواصل و توثيق الكلام و حفظه. مع مرور الزّمن، صارت للّغة قوّة غريبة، فاستعملها الكثيرون كسلاح أثناء الحروب. ذلك لأنّ وقع الكلمات على النّفوس يكون أشدّ أحيانا من وقع الرّصاص. كلمة واحدة كفيلة بكسر قلب أو إسعاده. الكلمة هي أكثر ما يثير الذّعر لدى أيّ دكتاتور! قام جورج أورويل بتصوير ذلك في رواية 1984، حيث يقوم "الأخ الأكبر" بفرض رقابة على أفكار النّاس و مشاعرهم. المثير للانتباه أنّه منع عنهم استعمال كلمات أو التّفكير في أشياء قد تدفعهم إلى التّمرّد، لأنّ أيّ دكتاتور يعلم جيّدا أنّ شعبا واعيا مفكّرا، من المستحيل استعباده.
كيف نلج عوالم اللّغات الأخرى؟
من لا يستطيع تعلّم لغات أخرى، لا يمكن أن يُحرم من الاطّلاع عليها! جاءت التّرجمة كحلّ لتمكيننا من الاطّلاع على مختلف اللّغات بلغات أخرى! ليست التّرجمة بالشّيء الجديد، فقد كانت تمارس منذ العصور الغابرة، و كانت تستعمل في البدء للمبادلات التّجاريّة و العسكريّة، ثمّ أخذت في التّطوّر رويدا رويدا. ظهر الفعل "ترجم" لأوّل مرّة بالفرنسيّة سنة 1539. في الحضارات القديمة كان على أيّ شخص مثقّف أ عالم أن يتقن التّرجمة. و للتّرجمة أنواع، فمنها ما ينقل المعنى و يكتفي بذلك و منها ما يكون حرفيّا. قد يضيع جمال نصّ بعد ترجمته، و أحيانا قد يحدث العكس، و نجد أنّ النّص المترجم أجمل من النّص الأصلي و أقرب إلى القلب.
-
أسماء بوزيدطالبة في قسم اللّغات، أدب و حضارات أجنبيّة (تخصّص لغة انجليزيّة)و مشروع كاتبة.
التعليقات
أحب من يعتز بلغتنا ويحث على ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر.
بوركتِ أسماء
استمتعت بالقراءة .. شكرا :))
لكن ... لماذا عنونتي مقالك بهذا العنوان ( لعنة اللغة ) . ثانيا اعجبتني جدا تلك الفقرة (جاءت التّرجمة كحلّ لتمكيننا من الاطّلاع على مختلف اللّغات بلغات أخرى إذ لابد ان يكون المترجم لدية قدرا من الثقافة و الاطلاع في شتى المجالات واذا إستطاع معرفة اكثر من لغة ..
(في الحضارات القديمة كان على أيّ شخص مثقّف عالم أن يتقن التّرجمة)
وأعجبني للغاية .. أسماء ما ختمتى به المقال (و أحيانا قد يحدث العكس، و نجد أنّ النّص المترجم أجمل من النّص الأصلي و أقرب إلى القلب) .. متألقة و مبدعة اختى أسماء
في كتابة هذا المقال
ليس دائما هذا الاقرار ..لأنه أحيانا نتكلم بل نتقن لغة لا نعرفها جيدا و هذا في حالات الغضب الشديد
استمري...وفقك الله
أحسنتى