لحية بيضاء ناصعة،عينين عميقتين تبوحان بكل شيء اذا ما دققت النظر اليهما ،تهيمان بك في زمن الشباب اين الكد والجد ولى ولم يبقى سوى المرض الذي انهك جسمه النحيل، ومع ذلك فهو لا ينبس ببنت شفة بل بالعكس تحسبه سليما في زمن تشابهت فيه علل الابدان ،كلما سالته عن حالته يبادر بجوابه المعتاد الحمد لله دائما وابدا ،جليسه كتابه ذو الغلاف الاخضر يتهجاه كلمة كلمة ولايمكن ان يمر يوما بدون ان يقرا صفحة او اكثر ،رغم ان بصره قد ضعف الا انه لايتهاون فهو يعلم جيدا ان ماسيبقى معه في دار الاخرة هو زاده.
ولدت في كنف جدي، صاحب الوجه الملائكي اتذكر انني كنت كلما شعرت بالخوف ركضت نحوه وبمجرد تمعني لملامحه تعتريني موجة اطمئنان تريحني وتعزز ثقتي بنفسي، منه تعلمت حنكة التعامل بالمنطق وتحكيم العقل، والصبر عند المحن والشدائد كانت كلما اصابتنا مصيبة لجأ الى الواحد الاحد ’’’فما تحكم الا وتفرج’’’ على حد قوله،بيت جدي شهد ولادتنا جميعا نحن الاحفاد وتم الاحتفال بنا جميعا ، كل زاوية فيه تشهد ذكرى سواءا كانت مفرحة او مؤلمة، لمتنا في الاعياد والاعراس وحتى الجنائز، حكايات مابعد منتصف الليل، عشاؤنا المتاخر، دعاؤنا المرفوع الى السماء في وقت مبكر، ضحكاتنا وحتى بكاؤنا، خطوات جدي المثقلة جراء قسوة سنين لم ترحم كبره، وهو يتجه للمسجد كي يلتحق بركب مصلي الفجر،طاقيته البيضاء قميصه البنفسجي المفضل، برنوسه الابيض العتيق ،ذكريات حرب التحرير ،وايام المعاناة اين قضى شبابه وهو يفترش الارض كي يوفر لقمة عيش حلال لاولاده، جدي الرجل الطيب الحنون الجاد اذا استلزمه الامر، غادرني دون وداع، حزم امتعته وعبر دون ان يلتفت نحوي رحل ورحلت روحي معه مخبئة ضمن حاجياته،جرح جدي عميق لايندمل عزائي الوحيد هو حبي اللامتناهي لكبار السن امثاله فهم يذكرونني به،رحل جدي ورحلت معه الافراح ،بيت جدي الذي جمعنا يوما ردم ليبني مالكه الجديد بيتا جديدا سيحتوي افرادا بذكريات جديدة ،البارحة مررت بحطام ذكرياتنا ولم اتمالك نفسي خيل الى بانه يئن في صمت كل طوبة فيه تطالب باكرام دفن يليق بمقام ماحملته طوال سنين مضت،ذكريات حملناها داخل قلوبنا فيم تم الاجهاز على مكان حدوثها ،انقذناها وفرطنا بالبيت .
لا احد يعوض مكان احد، ان تفقد احد جديك او كليهما يعني انك تيتمت وحرمت من شعور الحفيد المفضل، جدي وبيته الندبة العميقة التي لن تشفى، رحم الله اياما جمعتني بك اذ كنت جد محظوظة انني سامرتك واستمعت لحكاياك ذات سنين ، جدي يا ألما ينهكني ويا روحا تسكنني ويا دعوة تنتشلني من عفن هذا العالم لتبقي داخلي نقيا ..رحمك الله
-
سارةقلب مشع روح شفافة
التعليقات
صدقا رائعة هي الأيام مع الجد او الجدة و بفقد احدهما لا احد يعوضهما على الاطلاق حتى الوالدين...احترافية في الحب و صرامة في الاختيار ، و اقول لك : من حقك ذلك لأنك اخترت حبا مميزا فيه الكثير من العبر و التجارب و المعلومات.محظوظة أنت سارة.
ومفرداتك اللغوية جيده ،
وخاصة إستخدامك للوصف رائع ...
دام قلمك سارة ``