"رمضان جانا .. وفِرِحْنَا بُهْ .. بعد غيابه .. وبَقَالُه زمان ..
غَنُّوا وقولوا .. شهر بِطُولُهْ .. غَنُّوا وقولوا .. أهلاً رمضان ..
رمضان جاااانا .. أهلاً رمضان .. قولوا معاااانا .. أهلاً رمضان ..
رمضااااااااااان جااااانا".
عندما يتسلل صوت محمد عبد المطلب إلى أسماعنا وهو يشدو بهذه الأغنية، فإننا نبدأ بالشعور بأجواء شهر رمضان على الفور .. وعلى الرغم من أنه قد مرَّ عليها أكثر من ستين عامًا منذ أن غنَّاها عبد المطلب لأول مرةٍ في الإذاعة المصرية، إلا أنه لم تنجح أغنيةٌ أخرى في زحزحتها عن عرش "الأغنيات الرمضانية"، حتى صارت بمرور السنوات أيقونةً لقدوم الشهر الكريم.
وكما أن "رمضان جانا" تتفرد بأنها تُمَثِّلُ عاملاً مشتركًا بين جميع الأجيال المتعاقبة منذ خمسينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، فإن هناك العديد من المظاهر الأخرى التي ترتبط مع كل جيلٍ بشهر رمضان .. فإذا نظرنا إلى جيل الثمانينات والتسعينات – والذي أحظى بالانتماء إليه – لوجدنا الكثير من المظاهر المرتبطة بشهر رمضان والتي تسكن وجدان وذاكرة كل أبناء جيلي.
أتَذَكَّرُ أننا كنا نختار - قبل أيامٍ قليلةٍ من بداية رمضان – مِنْ بيننا مجموعةً تنطلق لتَمُرّ على جميع بيوت شارعنا لجَمْعِ الأموال التي نقوم بشراء "زينة رمضان" بها .. كانت متعةً ما بعدها متعةٍ عندما نَقُصُّ الشرائط الورقية الملوَّنَة على شكل مثلثاتٍ ثم نَجْمَعُها في خيوطٍ كبيرةٍ نربطها بين شرفات البيوت بعرض الشارع في صفوفٍ متتاليةٍ، لتَصْنَعَ لوحةً مبهجةً بالألوان الزاهية .. كانت ترفرف في صوتٍ مميزٍ - لا يفارق أذناي حتى اليوم – عندما تتخللها "نسمات هواء العصرية"، فترفرف معها قلوبُنا الصغيرة في فرحٍ .. كنا إذا ما تبقَّى جزءٌ من المال، نصنع فانوسًا كبيرًا من الكرتون والورق الشفاف الملون ونضع في داخله مصباحًا كهربائيًا نعَلِّقَه وسط الزينة لينير شارعنا طوال ليالي رمضان .. تلك الليالي التي لم يكن ينقطع فيها لعب كرة القدم – "الدورات الرمضانية" - حتى آخر ليلةٍ في رمضان قبل صلاة عيد الفطر.
أتذكر يوم إعلان رؤية هلال رمضان عندما كنا نجلس مُتَرَقِّبِين أمام التلفاز .. كانت قلوبنا تدق عندما يتم الانتقال إلى إذاعةٍ خارجيةٍ من دار الإفتاء المصرية لإعلان الرؤية، مُتَمَنِّين من قلوبنا أن يكون رمضان غدًا .. فإذا ما تأكد ثبوت رؤية الهلال، انطلقنا إلى الشارع لنحتفل على طريقتنا الخاصة؛ بضرب "البومب" وإشعال "الصواريخ" الصغيرة ونلهو بالفوانيس الصاج ذات الزجاج الملون والمضاءة بالشمع، قبل زمن الفوانيس الصيني البلاستيكية ذات الأشكال العجيبة والتي تعمل بالبطاريات الجافة وتغني أغاني نانسي عجرم وهيفاء وهبي، في تشويهٍ مُتَعَمَّدٍ لهُوِيَّتنا وتراثنا، ليس بالنسبة لفانوس رمضان فحسب بل في جميع مناحي حياتنا المعاصرة، حتى صرنا أمةٌ بلا حاضرَ نفتخر به كما نفتخر بماضينا، ومستقبلٌ مُبْهَمٌ بلا ملامحَ تدلنا على طريقه.
أعودُ فأقولُ بأننا كنا نلهو بالفوانيس في شارعنا فور ثبوت رؤية هلال رمضان، مُرَدِّدين الأغاني الشهيرة مثل "رمضان جانا" و "وحوي يا وحوي إيِّوحا" والتي لم نكن نعلم وقتها معنى كلماتها، حتى كَبِرْتُ فَعَلِمْتُ أنها كلماتٌ بلُغةِ المصريون القدماء كانوا يقولونها عند رؤيتهم للهلال، وتعني: "أهلاً بالقمر الجديد" .. بعدها نعود لمنازلنا كي نرتدي الجلباب الأبيض والطاقية ذات الثقوب كي نذهب مع آبائنا إلى المسجد كي نصلي العشاء وأول صلاةٍ للتراويح .. كانت "التراويحُ" رَوْحَةً لنفوسنا المشتاقة إلى رمضان، فلم نكن نتململ من كثرة ركعاتها وطول وقتها.
أتذكر أنني صُمْتُ لأول مرةٍ في حياتي حتى أذان الظهر .. كنتُ في السابعة من عمري .. أقنعني أبي أن الأطفال الصغار يصومون بالتدريج عامًا بعد عامٍ ويُحْتَسَبُ لهم الأجرُ كاملاً .. في العام التالي صُمْتُ حتى أذان العصر .. وفي العام الذي يليه صُمْتُ – لأول مرةٍ – حتى أذان المغرب بعض أيام الشهر .. وعندما أتممتُ العاشرة من عمري، صُمْتُ رمضان كاملاً .. كان تحدِّيًا عظيمًا ربحته، ما جعلني أشعرُ وقتها أنني قد صرتُ رجلاً كبيرًا يستطيع أن يتحمل الصعاب مثله مثل الكبار.
أتذكر أنني كنت أجلس مع أسرتي مجتمعين حول مائدة الإفطار نستمع إلى قرآن المغرب عبر أثير الراديو بصوت الشيخ محمد رفعت - المُلقَّبُ بقيثارة السماء – مُنتَظِرين بفارغ الصبر ذلك النداء الشهير الذي يرج الدنيا: "مدفع الإفطاااااااار .. إضرب"، يعقبه إطلاق تلك القذيفة المدوية من مدفعٍ أعلى جبل المقطم إيذانًا بالشروع في البدء بالإفطار .. نشرب العرقسوس والسوبيا ونأكل التمر نصف جافٍ أو منقوعًا مع اللبن والخُشَاف .. ثم نصلي المغرب قبل أن نبدأ في الإفطار ونحن نستمع إلى فوازير الإذاعة عبر محطة البرنامج العام، متنافسا مع إخوتي في الاستباق إلى حلها .. ثم نهرع فور انتهائنا من الإفطار لنفتح التلفاز لمشاهدة "بوجي وطمطم" ومغامراتهم مع الفيل "فلافيلو" ومشاكساتهم اللذيذة مع "عم شكشك"، يعقبها فوازير "سمُّورة وفطُّوطة" ببدلته الخضراء الواسعة، وحذائه الكبير الذي لا يتناسب مع حجمه الصغير، ولكنته المحببة إلى الآذان .. كنا نشاهد أيضًا "عمو فؤاد" ومغامراته التي لا تنتهي كل عامٍ بخفة ظلٍ للفنان الراحل "فؤاد المهندس"، وكذلك "جدو عبده" ذلك الجد الجميل طيب القلب الذي كان يجسده الفنان الراحل "عبد المنعم مدبولي" .. مَنْ مِنَّا يمكن أن ينسى حلقات "العمدة الآلي" ؟.
كنتُ أنا وإخوتي نطالب أمَّنَا بطبق "الحلو" أثناء مشاهدتنا للتلفاز .. لم يَخْلُ يومٌ من أطباق الكنافة أو البسبوسة أو القطائف أو قمر الدين وغيرها من الأصناف الحلوة، فكنا نتذمر إذا ما قدَّمتْ لنا أُمَّنا في أحد الأيام فاكهةً بدون أن يصحبها صنفٌ من تلك الأصناف السابقة فنشعر أننا قد خُدِعْنا بصورةٍ أو بأخرى.
بمجرد أن يؤذن المؤذن لصلاة العشاء، كنا نهرع إلى المسجد لنصلي العشاء والتراويح، ونستمتع بالاستماع إلى الخطبة القصيرة التي يُعَلِّمُنَا فيها إمامُ المسجد أحكامَ الصيام وآدابه .. وبعد انتهاء التراويح نعود إلى بيوتنا لنلعب قليلاً ونشاهد المسلسل العربي الذي يُعْرَض مساءً .. كنا في زمن المسلسل الرمضاني الواحد وقت أن كانت هناك قناتين اثنتين فقط، قبل أن يأتي الزمن الذي أصبح يُعْرَضُ فيه مائة مسلسلاً على عشرات القنوات ليلَ نهارٍ! .. لا زلت أتذكر مسلسلاتٍ ارتبطت في ذاكرتي برمضان، مثل: رأفت الهجان .. ليالي الحلمية .. الوعد الحق .. محمد رسول الله .. الفرسان .. المال والبنون .. الضوء الشارد .. بوابة الحلواني .. ضمير أبلة حكمت .. ذئاب الجبل .. لن أعيش في جلباب أبي .. أرابيسك .. لا زلت في كل مرةٍ يُعاد فيها عرض إحدى هذه المسلسلات أجد نفسي أعود بالزمن إلى الوراء وكأنني قد ركبت "آلة الزمن".
أتذكر أننا كنا حريصين على قراءة وِرْدٍ يوميٍ من القرآن الكريم يتراوح من جزءٍ إلى جزءين، فنختم بذلك قراءة القرآن الكريم كاملاً مرةً أو مرتين خلال شهر رمضان .. كنا نتنافس مع أصدقائنا وإخوتنا فيمن يقرأ أكثر من الآخر .. وكنا حين تهل العشر الأواخر من رمضان نحثُّ الخُطى نحو جامع عمرو بن العاص في مصر القديمة كي نصلي العشاء والتراويح كل يومٍ حتى نصل إلى مسك ختام رمضان حينما يأتي الشيخ "محمد جبريل" ليومين أو ثلاثة لختم القرآن الكريم في لية القَدْر التي يُقَدِّرُها أغلب الناس بالليلة السابعة والعشرين من رمضان .. تلك الليلة التي يبدع فيها الشيخ "جبريل" في الدعاء لمدة ساعةٍ كاملةٍ في آخر ركعةٍ للتراويح .. لم يكن يصيبنا تعبٌ ولا نَصَبٌ ونحن وقوفٌ مادَّين أكُفَّ الضراعة والابتهال إلى الله أن يتقبل صيامنا وقيامنا وعملنا في رمضان، وأن يُثَبِّتَنَا على طاعته باقي أشهر العام حتى يُبلغنا رمضان الذي يليه .. كانت لحظاتٍ روحيةً نادرةً في جامعٍ تشعر فيه بعبق المسجد الحرام ودفء المسجد النبوي، خلف إمامٍ عَذْب الصوت وهبه اللهُ طلاقة اللسان وحبَّ الناس وعشق سماع القرآن منه.
أتذكر يوم إعلان رؤية هلال شوال عندما كنا نجلس مُتَرَقِّبِين أمام التلفاز .. لم تكن رغبتنا هي نفس رغبتنا يوم إعلان رؤية هلال رمضان .. كنا نتمنى أن تعلن دار الإفتاء أن يمتد رمضان ليومٍ آخرَ فيكتمل ثلاثين يومًا، عكس ما كنا نتمناه لشعبان – قبلها بشهرٍ – ألا يتجاوز اليوم التاسع والعشرين .. لم نكن نريد لرمضان أن يتركنا ويرحل هكذا سريعًا، فما أقسى فراق الحبيب .. كنت - بدون مبالغة - أبكي ليلة عيد الفطر بينما تنساب من بين أيدينا - بل من أرواحنا ذاتها - آخر لحظات من رمضان.
هكذا كان رمضاننا ونحن صغار .. لم نعد نشعر به اليوم نفس شعورنا الذي كان في طفولتنا .. لم يعد طعم رمضان اليوم هو نفس الطعم الذي كنا نتذوقه في سن براءتنا .. لا أدري إن كان رمضان هو الذي تغير، أم أننا نحن الذين لم نعد كما كنا !
التعليقات
دامت واقعيتك في الكتابة ... وصدقك الداخلي
رمضان كريم تحياتي لك ... اخي اسلام