تخيل أنك تقف في منتصف طريق لست في أوله لتنطلق ولم تبلغ نهايته لتسكن وتتوقف عن المسير وكلما تقدمت في هذا الطريق شعرت بغربة أكبر وتخفت قواك أكثر بدايته كانت مألوفة لك ويعرفها قلبك ولكنه مع الوقت أصبح غريباً عنك فلقد تغير جوه واختلفت ملامح الناس فيه حتى الكلام أصبح غير الذي كنت تنطق به وكل شيء تغير ولم يعد هنالك شيء يشبهك ياله من إحساسٍ مؤلمٍ للنفس لا يشعر به إلا من تجرّعه، الزمان غير الزمان والمكان غير المكان ولا شيء يبقى كما كان، هذا الشعور ربما تقرأه في عين جدتك التي رسم الزمان حولها خطوط الحوادث وهالات الماضي وتسمعه في تنهيدة جدك المليئة بهموم وحكايات لم يفصح عنها وتراه في نظرات أستاذك وهو يتوكأ على عكازه أمام مدرسته القديمة التي ربّى فيها أجيالاً قبل أن يحال إلى التقاعد وهذا هو الشعور الذي يتملك كبار السن كبار المكانة في قلوبنا رفقاً بهم فهم يعيشون في زمان غير زمانهم وتغيرت الحياة ولبست ثوباً آخر غير الذي اعتادوا عليه الأماكن التي أحبوها لم تبق على حالها والبيوت التي ألفوها تغير سكانها ولغة الحوار التي يعبرون بها اختلفت مفرداتها وجاءت محلها لغة لم تألفها آذانهم ولم تنطق بها ألسنتهم ومع تغيرات السن تضعف قواهم شيئاً فشيئا فينتابهم ظن بأن المجتمع لم يعد بحاجة إليهم والحقيقة أنهم بركته وبهم ينزل الله عليه رحمته وهم نفائسه وخبراتهم كنزه، لا غنى لأي مجتمع عنهم ليتقدم وينهض ، صمتهم لا يعني أنهم بخير فأذهانهم تسافر إلى الماضي وتعود به إلى الحاضر وتكرارهم لحكاياتٍ انطوت وأحداثٍ مضت ما هو إلا محاولة للتعايش مع الحياة الجديدة بعبق الذكريات القديمة.

وقّرهم ولا تحاسبهم فلقد ذاقوا في أعمارهم ما يكفي َلا تكن أنت والزمان عليهم، ألن لهم الحديث وأشعرهم بمكانتهم وعظم قدرهم ومدى تقديرك وحبك لهم وانهل من حكمتهم فلقد رأوا من الحياة ما لم ترَ وحصيلة خبراتهم أكبر، لا تتأفف إن تكررت كلماتهم أو تغيرت أمزجتهم فإنه لشعور قاتل أن يحس المرء أنه ثقيل على أحدهم فلا تعذبهم بهذا الشعور في تعاملك معهم، قابلهم بابتسامة واخفض لهم جناحك وعاونهم واقض حاجاتهم قبل أن ينطقوا بها كن عصاهم التي يتوكؤون عليها والركن الحاني الذين يشعرون معه أن الحياة تدب في قلوبهم وأن أفئدتهم ما زالت تلمع حينها ستهطل بركتهم على حياتك وتفاصيل أيامك وسترى رحمة ربك تغمر قلبك كما رحمت قلوبهم وجبره يعوض صبرك كما جبرت ضعفهم.

أنفاسهم في حياتنا رحمة ودعاؤهم لنا بركة وخدمتهم رزق فاللهم احفظهم وأطل أعمارهم بالصحة والعمل الصالح الذي يرضيك عنهم.