يا أبتِ إنّي أخافُ..
ذاتَ يومٍ قلتُ لأبي ماذا يحدث في الأفق هناك، بعيدًا عنا، أريدُ أن أرى، لم يمهلني الفرصة لأكمل، ليخبرني بعنف أنَّ المكانَ هناك محظور، لا تفكر أن تطئه قدماك يومًا، لم يعرفْ حينها أنني أردتُ فقط أن أعرف، لم أكن أرغب في الذهاب قطعًا، كنت أريد أنْ أفهمَ ماذا يعني هذا فحسب، لكن أبي لم يمهلني، حتى كبرت وعرفت، وذهبت...
مشكلة الآباء اليوم ليست مع أبنائهم فحسب؛ إنها طبيعة جيل جديد، بل ربما يعتبرها بعض الآباء حربًا عليهم، مؤامرة لكسر كل القيم والعادات التي تربوا عليها، ثورة للخروج من وثاق الطاعة، لكن لننظر قليلًا، ألم يفطنوا يومًا لقول "لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم"، وعلى اختلاف إسناد هذا الأثر، إلا أنَّ ما يهمنا هُنا معناه، والذي آراهُ صحيحًا لدي، فالأهل كثيرًا ما يستشهدون بالآيات التي تحثنا على الطاعة التامة للوالدين، وأن الأمر الوحيد الذي يحق لنا الاعتراض فيه هو دعوة الوالدين ولدهما إلى الشرك أو الكفر بالله تعالى، لكنَّ الأمر هُنا يختلفُ في الأمورِ المباحة؛ التي تتغير وفق الأزمنة، ألا ينبغي علينا أن نمنحَ الأبناءَ فرصة صنع بعض القرارات، أو المشاركة في صنعها، قُل حتى إبداء الرأي فيها! ثم من أدراك أنك إن حجبته رأيه رغما عنه، أنه سينفذ رغبتك، ما الذي يمنعه من أن يفرض رأيه في مجتمعهِ الخاص، بعيدًا عن البيت، أأمنَ الآباء أن أبناءهم لن يلجأوا على الأقل إلى طريق آخر أكثر حرية من وجهة نظرهم، يُزينه لهم آخرون بدافع الصداقة أو غيرها، ثم يتبعونهم دون وعي بعواقبِ ما يفعلون، لمجرد أنَّهم وجدوا فيهم ملاذًا للاستماع والتأييد..
يا أبتِ إنِّي أخافُ، أخاف أنْ تأخذني الدنيا بعيدًا عنكم، أن أستيقظَ ذات يوم وأنا مثقوب بخصال العقوق دون أن أشعر، أن أجد نفسي في أحضان مجتمعٍ آخر، أقبله بنصف عقل بل أقل، بل ربما لا أقبله أصلًا، لكن أخشى على قلبي أن يجد الراحة هناك، وأنا ما اعتدها إلا في دعواتكم..
من أنجح الطرق التي عهدتها في التربية؛ طريقة الحوار، ولا تستصغروا سن أطفالكم، فمهما بلغوا من العمر هناك حوار ما، هناك كلمة تخرجُ من أفواهنا إليهم، قد لا يعوها كاملة، لكنها ستظل في ذاكرتهم، يجدونها في وقتها؛ وإلا لما يخبرنا مشايخنا بالبدء بقراءة القرآن، أو يشجعنا الأطباء على محاكاة الأم لطفلها بداية من فترات حياته الأولى حتى لو لم يتيسر لديه الفهم الكاف.
أخبرتني صديقتي، ذات مرة، أنها تتبع مع أبنائها هذه الطريقة، ورغم أنها ليست باليسيرة، كما أن نتائجها لا تظهر بشكل كامل للجميع، لكن لا أستطيع أن أنسى أنني شاهدت ابنتها ذات العامين بعد أن كانت تصرخ لأنها تريد شيئًا ما، وجدتها تخفف من صياحها وتهدأ بشكل ملحوظ، حينَ أشارتْ إليها أمها بأن الوقت غير مناسب، وأنها الآن مشغولة، ووعدتها أن تنفذ لها ما تريد حين ينصرف الضيوف، "وكنتُ أنا الضيف"، وأشارت إليَّ الأم، وقالت اهدأي، فهدأت! ..
سألتها هل فهمت؟ قالت: ربما ليس بشكل كاملٍ؛ لكنها تقبلت الحوار.
كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها تجربة عملية لأسلوب الحوار مع الأطفال، وقد أتى بنتيجة مُرضية على الأقل بالنسبةِ لي، ثم فكرت.. ماذا إن استمر هذا الحوار حتى أصبح الفتى شابًا، ما الذي يدفعه للتمرد إذا وجد أن رغبته ممكنة، وأن وجهة نظره مسموعة، وقراره إما قيد التنفيذ أو التفكير بمنطق، أو حتى يخضع لحوار بين طرفين يُقنع أحدهما الآخر، ما الذي يرغبُ في تحقيقه أكثر من ذلك؟
ربما قرأنا وسمعنا كثيرًا عن عقوق الأبناء لآبائهم، لكن ماذا إذا عكسنا الرؤية، فالخالق الحكيم الذي جعل لكلمة من حرفين" أف" عقوق؛ لم يترك حقوق الأبناء على الآباء، وهي أكثر من أن تُحصى في مقال بسيط، ولكن نشير هنا إلى مصطلح عقوق الآباء لأبنائهم، فكما نفكر في تصرف الابن العاق، ينبغي أن ننظر بنفس الطريقة إلى الوالد، هل أعانه على الطاعة أو ألجأه للعقوق، بل إن كثيرًا من الناس حينما يجد عقوقًا من ولده يجري على لسانه الدعاء عليه! وللأسف لا يعوون أن دعاءهم غير مردود، وأنه في أبسط الأحوال إن لم يحدث لهم السوء؛ فإنهم يساهمون على الأقل في استمرارهم على ما هم فيه، بدلًا من أن يطلبوا من الله صلاحهم، وقد جاء في الأثر أنه جاء رجل إلى عبد الله بن المبارك -رحمه الله- يشكو إليه عقوق ولده، فسأله ابن المبارك: "أدعوت عليه؟"، قال: "نعم"، قال: "اذهب فقد أفسدته".
ربما يفهم بعض القراء، أن حديثي هذا دعوة لانفصال الأبناء، أو إعطائهم الحق في الخروج على والديهم، لكن هذا ما لم أقصده على الإطلاق، وإني مؤمنة تمام الإيمان أن طاعة الوالدين مقدمة على تنفيذ رغباتنا، بل إن طِيب خواطرهم والابتسامة من ثغرهم، لا يساويها ألف رغبة.. بيدَ أني أردتُ أن أشير إلى أن الكتاب الذي جاء فيه "وبالوالدين إحسانًا"، حفظنا بين صفحاته أيضًا " وأْمُر أهلك بالصلاة واصطبر عليها"..
فأحسنوا إلى أبنائكم واجعلوهم مطمئنين، ولا يتسنى للأبناء أن ينسوا أن البرَ كنزُ الدنيا، وطريق الجنة، وأن إقامة الحجة عليهما عقوق..
بارك الله في أعمار آبائنا، وغفر لمن لحق بربه منهم.
-
سمر عليباحثة ماجستير، أحبُ رفوف الكتب، وأجد نفسي في زوايا المكتبة، أكتبُ خواطرَ خفيفة، بين الحينِ والآخر.. أضفت حسابًا جديدًا على موقع" فيس بوك" لمن يرغب في المتابعة♥
التعليقات
استمري
لا يقع على الأبناء تحمل وزر العقوق في حين انه يتم دفعهم الى ذلك .. بل لو ان الآباء كلفوا أنفسهم فقط حوار واحتواء لما كان هناك عقوق..
احسنتِ واتفق معك في طرحتي