تبدّل حال المدينة المنورة في أرض والتي كانت تعرف ما قبل ظهور الإسلام ب"يثرب"، يوم دخلها نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام، مهاجراً بعد ثلاث عشرة سنة من البعثة والدعوة في مكة المكرمة، في السابع والعشرين من شهر صفر من السنة الرابعة عشرة .

المدينة المنورة كانت تعيش صراعاً استمر سنوات طويلة بين قبيلتي الأوس والخزرج، ولم تتوقف تلك الصراعات إلا بعد وصول نبي الله والذي ألّف بين القبيلتين بعد اعتناق أبناءها الدين الإسلامي، ونبذهم للخلافات والقتال، واستطاع نبي الله محمد أن يوحد الصفوف وأن يجعل من المدينة المنورة العاصمة الأولى لأمة الإسلام .

كفّار قريش رفضوا دعوة الرسول لأنها كانت دعوة إلى هدم الأصنام وترك المحرمات وهو ما جعلهم يمعنون في تعذيب صحابة الرسول وقتل عدد منهم، والأمر لم يكن إلا دفاعاً منهم عن قوة سلطتهم داخل مكة ورفضهم بأن يجتمع الناس حول محمد وصحبه، كانت خشيتهم كبيرة من ازدياد عدد تابعيه وخاصة من الفقراء والعبيد .

وقياساً على ما ذكره السياسي البريطاني ديفيد لوغان عن المراحل الخمسة التي تمر بها القبيلة أنه "عندما يأتي الناس معاً ويجدون شيء يجمعهم ويكون أعظم من منافساتهم الفردية، عندها يحدث شىء مهم للغاية، المجموعة تنصهر وتتغيّر، من مجموعة مندفعة جداً لكنها متركزة على الأفراد، إلى شىء أكبر، إلى قبيلة تصبح مدركة لوجودها الفريد" مشيراً إلى المرحلة الرابعة .

وأستشهد لوغان بقضية جنوب أفريقيا وما مرت به من صراعات، لافتاً إلى أن الناس هناك ركزوا فقط على قيمتين: الحقيقة والمصالحة، معنوناً المرحلة الخامسة "الحياة عظيمة" .

ويقول لوغان أن القادة يتطلب أنهم يقدرون على مخاطبة كل مستويات المراحل الخمسة للقبيلة، بحيث يمكنك التأثير على كل فرد في المجتمع .

لكن لوغان تجاهل أو تناسى أن ما ذكره من مراحل، يطابق ما عاشه مجتمع المدينة المنورة منذ عقود طويلة مضت، وأنه تحقق فيها أعظم مرحلة وهي قيادة الرسول محمد ومن بعده صحبه الكرام، لهذا المجتمع القبلي الذي عاش لسنوات من الفرقة والحروب والشتات والشرك .

وذكر المفكّر العالمي جواهر لآل نهرو، رئيس وزراء الهند، الأسبق في كتابه (نظرة في تاريخ العالم) عن الحكومة العادلة لنبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة قائلاً:

"نادى الإسلام بالأخوة والمساواة لكل الذين أسلموا، فأوجد نظاماً ديمقراطياً للناس، وهذا الشعار الأخوي الإسلامي لو قايسناه بالمسيحية الفاسدة في ذلك الزمان، ليس فقط للعرب بل لأناس كثيرين من دول أخرى يدخل عليهم المسلمون، نجده يشدهم إليه ويجذبهم إليه جذباً".

وفي مقالة تحت عنوان "أسس بناء الدولة الإسلامية" ذكر الكاتب المغربي عبدالحق بن المجدوب الحسني، نشرها في صحيفة المحجة، أن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، كانت تعني نشأة أول دار إسلامية إذ ذاك على وجه الأرض، وقد كان ذلك إيذانا بظهور الدولة الاسلامية بإشراف منشئها الأول محمد صلى الله عليه وسلم، ولذا فقد كان أول عمل قام به صلى الله عليه وسلم أن أقام الأسس الهامة المتمثلة في هذه الأعمال الثلاثة :

الأساس الأول بناء المسجد ودوره في الإسلام

بمجرد وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة واستقراره فيها عزم على إقامة مجتمع إسلامي راسخ متماسك يتألف من الأنصار والمهاجرين الذين جمعتهم المدينة، فكان أول خطوة قام بها في سبيل هذا الأمر بناء المسجد، فدوره في إصلاح المجتمع أصيل خطير لأنه المؤسسة الإسلامية الأولى التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالحياة الاجتماعية عند المسلمين، ولأنه المؤسسة الكبرى المخصصة للعبادة والتعليم والقضاء، وهو أيضا جهاز الدعوة الأكبر، ومصدر العلم والهداية والوعظ والإرشاد والتبليغ والتوجيه وكل أعمال الإصلاح الاجتماعي عبر تاريخ الإسلام الطويل .

لقد ظلت وظيفة المسجد هي العبادة والتعليم والمدارسة، ومقر القيادة والرياسة طول مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وكذلك كان الشأن في خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، واتسعت دائرة العلوم التي تدرس في المسجد بعدهم حتى شملت كل المعارف الإنسانية، إذ كان المسجد موضوعا لأمر جماعة المسلمين وكل ما كان من الأعمال التي تجمع منفعة الدين وأهله .

الأساس الثاني المؤاخاة بين المسلمين عامة والمهاجرين والأنصار خاصة

الأخوة هي من الأمور التي بدأ بها صلى الله عليه وسلم إذ وطد صلة الأمة بعضها ببعض، فأقامها صلى الله عليه وسلم على الإخاء الكامل، الإخاء الذي ينتقي ويتحرك الفرد فيه بروح الجماعة ومصلحتها وآمالها فلا يرى لنفسه كيانا دونها ولا امتداداً إلا فيها .

وقد أعطت هذه المؤاخاة نتيجتها بأن أذابت عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، وأسقطت فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتأخر أحد ولا يتقدم أحد إلا بمروءته وتقواه، وكان صلى الله عليه وسلم الأخ الأكبر لهذه الجماعة المؤمنة، لم يتميز عنهم بلقب إعظام خاص، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم كان إنساناً تجمع فيه ما تفرق في عالم الإنسان كله من أمجاد ومواهب وخيرات .

ومما يمكن أن يستنتجه المرء من هذه المؤاخاة، هو يقينه صلى الله عليه وسلم أن أي دولة لا يمكن أن تنهض وتقوم إلا على أساس من وحدة الأمة وتساندها، ولا يمكن لكل من الوحدة والتساند أن يتم بغير عامل التآخي والمحبة المتبادلة .

الأساس الثالث : الوثيقة "الدستور"التي حددت نظام حياة المسلمين فيما بينهم وأوضحت علاقتهم مع غيرهم بصورة عامة واليهود بصورة خاصة

عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وجد بها يهوداً توطنوا ومشركين مستقرين، فلم يتجه فكره إلى رسم سياسة للإبعاد أو المصادرة والخصام، بل قبل عن طيب خاطر وجود هؤلاء وأولئك وعرض عليهم معاهدة تقضي أن لهم دينهم وله دينه، وأن المسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة، وقد نطقت هذه الوثيقة برغبة المسلمين في التعاون الخالص مع يهود المدينة لنشر السكينة في ربوعها، والضرب على أيدي المعادين ومدبري الفتن أيا كان دينهم، وقد نصت هذه المعاهدة بوضوح على أن حرية الدين مكفولة، فليس هناك أدنى تفكير في محاربة طائفة أو إكراه مستضعف، واتفق المسلمون واليهود على الدفاع عن يثرب إذا هاجمها عدو، كما جاءت حرية الخروج من المدينة لمن يبتغي تركها والقعود فيها لمن يحفظ حرمتها .