ربّما لا يبدأ الكثير منّا بممارسة الأعمال أو الحِرف أو الهوايات الّتي يعتقدون بفائدتها خوفاً من البداية الّتي طالما سمعوا أنّها أصعب جزء من أجزاء أيّ عمل يُقدم عليه الإنسان، وهذا حقّ، فالبداية صعبة للغاية، لكن تبدأ بعدها الصعوبة تتفتّتُ شيئاً فشيئاً حتّى تزول تلك الصخرة الّتي تحجب العقل عن طريقه إلى المرحلة التالية الّتي تعد محطّة انطلاق نحو الوصول إلى الآلية، فيؤدّي اليوم العمل الّذي كان يتخوّف مجرد البداية به أمس بمهارة عالية وبطريقة لا شعوريّة.
حقّاً إنّ البداية تجعلك مشوّشاً حائراً في أمرك لا تعرف كيف تواصل طريقك، كما يحير في أمره من يمسك في يديه كومة من الخيوط المتعاقدة المتشابكة إلى درجة يتوه معها الفكر، لكنّه مع ذلك لا يمنعه من فكّ هذه الأحجيّة الّتي بين يديه إلّا أن يبدأ بسحب خيط من الخيوط، فإذا به يرى بعد برهة أنّ العمليّة أضحت تقود نفسها بنفسها، ولا يحجزه عن فصل الخيوط عن بعضها وعزلها إلّا الصبر وشيء من الوقت.
لأنّ عقولنا تؤمن أنّ البداية أمر صعب عسير قد نخوضه ونحاوله فتبوء محاولتنا بالخيبة والفشل فيقودنا ذلك إلى الشعور بالإحباط والحزن وربّما قادنا إلى تزعزع ثقتنا بأنفسنا، لذلك فعقولنا تختلق الحجج والأعذار لتجنّبنا أن نبدأ في ما قد يجلب لنا كلّ هذه المشاعر المؤلمة.
لكن مهلاً، فبداية البداية ليست بهذه الصعوبة! إنّها أمر من أسهل الأمور، لا يجشّمك الإقدام عليه سوى أن تتناول أيّ طرف من أطراف قضيّتك مهما كانت شائكة وتبدأ بمعالجتها. وإذا اكتشفت أنّك أخطأت في بداية البداية، فإنّك لم تخسر الكثير من الوقت، يمكنك أن تبدأها من جديد. يشبه الأمر قضيّة الخيوط المتشابكة الملتفّة على بعضها الّتي تحدّثنا عنها، قد تستلم في يدك أحد هذه الخيوط لتبدأ به في رحلتك في فرزها وحلّ تشابكها، فتكتشف أنّه ليس البداية المثاليّة لبدايتك، فتتركه وتأخذ واحداً آخر.
وأوّد أن أنوّه إلى أنّ استشارة خبير في المجال الّذي تنوي أن تبدأ عملك أو ممارستك فيه قد تقصّر لك الطريق كثيراً، و تجنّبك عناء كثرة المحاولات وما يرافقها من بذل الوقت والجهد وربّما المال، وترشدك إلى أفضل الطرق لبداية صحيحة، فتذلّل لك كثيراً من صعوبة البداية.
حين أردت أن أتعّلم اللّغة الإنجليزيّة، لم أعرف من أين أبدأ، وطفقت أحفظ الكلمات كيف ما اتّفق، وبعد وقت طويل وجهد كثير أهدرتهما في التعلّم العشوائيّ، اكتشفت أنّ مستواي لم يرتقِ درجة واحدة في اللّغة، لكنّ بعد استشارتي لخبير في هذا المجال، بيّن لي الطريق الصحيحة: أفهمني أنّ اللّغة، أيّ لغة في العالم، تتكوّن من مستويات، ولا يصحّ لمن هو في المستوى الابتدائيّ أن يتعلّم كلمات تصنّف من كلمات المستوى المتقدّم؛ لأنّها صعبة عليه ولن تفيده في بداية تعلّمه للّغة. وأنّ حفظ الكلمات وحده لا يكفي، بل إنّ الكلمات رغم أهمية حفظها تفتقر إلى الكثير من الأمور الّتي يجب أن تتفاعل معها ليظهر نفعها، كالقواعد، ومعرفة كيفيّة استخدام الكلمة في كلّ حالة من الحالات، وكيفية نطق الكلمة نطقاً صحيحاً يميّزها عن شبيهاتها من الكلمات،... الخ. وبعد أن صار في حوزتي منهج وخريطة واضحة لتعلّم اللغة، انكشفت لي الطريق إلى تعلّم الإنجليزيّة وانجاب عنه الغموض، كما ينجاب ضباب عن طريق سائق السيارة بعد أن كان يمنعه الرؤية تماماً. فانطلقت بمفردي في التعلّم حتى وصلت إلى المستوى الّذي كنت أطمح إليه. (عندئذ أدركت إلى أيّ مدى هي مهمّة استشارة الخبير الموثوق).
بداية البداية سهلة جدّاً، وتكمن الصعوبة في ما يأتي بعدها. بداية البداية لا تتطلّب منك سوى أن تأخذ بزمام المبادرة وتبدأ. وبعد ذلك لا تحتاج إلّا إلى العزيمة والصبر وشيء من الوقت يتناسب وحجم هدفك الّذي تصبو إليه، وسيصبح كلّ شيء كالسهل المنبسط والطريق الممهّدة إلى بلوغ غايتك، ستجتاز صعوبة البداية وتنطلق في طريقك بيسر وسهولة.
إذا كنت تريد أن تشرع في كتابة مقال أو كتاب عن الموضوع الّذي تحبّه، أحضر الأوراق وأمسك بالقلم، أو ضع أناملك على لوحة المفاتيح، واكتب أي شيء عن الموضوع، أكتب أي شيء يخطر على بالك، اكتب أول سطر (وهذه بداية البداية) ثمّ املأ صفحة كاملة، وبعد ذلك تخلّص منها إذا وجدتها ليست بالمستوى المطلوب.
إذا كنت تريد أن تشرع في كتابة مقال أو كتاب عن الموضوع الّذي تحبّه، أحضر الأوراق وأمسك بالقلم، أو ضع أناملك على لوحة المفاتيح، واكتب أي شيء عن الموضوع، أكتب أي شيء يخطر على بالك، اكتب أول سطر (وهذه بداية البداية) ثمّ املأ صفحة كاملة، وبعد ذلك تخلّص منها إذا وجدتها ليست بالمستوى المطلوب.
إذا كنت تريد أن تتعلّم لغة، ابدأ بأساسيّاتها (بداية البداية) ثمّ انتق لك منهجاً جيّداً وسر عليه.
إذا كنت موهوباً في الرسم، أمسك بريشتك وألوانك وابدأ برسم أي شيء تريد (بداية البداية)، ثم ارسم في البداية لوحات كثيرة، بغضّ النظر عن قيمة هذه اللّوحات، فقد تنتج عشرات وربّما مئات من الرسمات الّتي لا قيمة لها، حتّى تصل بعد ذلك إلى الإبداع. فهذه هي البداية وصعوبتها. ثمّ تخلّص من الرسمات الرديئة واحتفظ بالجيّدة.
وهكذا إذا كنت تريد أن تتعلم مهارات الحاسوب أو أن تدخل عالم الأعمال أو أن تشرع في التجارة، أو في أي عمل أو أداء آخر، ما عليك إلّا أن تبدأ بالأساسيّات لتنطلق.
ابدأ فقط ولا تسوّف.
_______________________
تشرّفني متابعتكم لمدوّنتي الجديدة على الرابط:
http://successgate.video.blog/2019/08/27/%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d9%84%d8%a7-%d8%aa%d8%a8%d8%af%d8%a3%d8%9f/