عندما تخلَّصْتُ من مخاوفي .. وأَكَلْتُ البِصارة
نشر في 13 ماي 2016 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
لم أتذوق البِصارة يومًا ولم أكن أعرف حتى طعمها .. كنتُ أرفض أن أأكلها وأنا صغيرٌ في كل مرةٍ كانت أمي تقوم فيها بطهيها .. كنتُُ أخشى الاقتراب منها – البِصارة وليست أمي بالطبع – شأنها في ذلك شأن السبانخ والقلقاس والكِشْك والخُبِّيزة والكوارع وغيرها من غرائب الطعام .. لا أعرف سببًا لكرهي لهذه الأكلات رغم أنني لم أتذوق أيًّا منها من قبل .. كان خوفًا غير مُبَرَّرٍ يُشْبه خوفي وأنا صغيرٌ من عم محمود البقَّال – رحمه الله – الذي كنتُ أتجنب المرور من أمام بقالته لمجرد أن صوته كان أجشًّا.
أذكرُ أنني عندما تقدَّمتُ لخِطْبة فتاةٍ – والتي أصبَحَتْ الآن زوجتي – عدَّدتُ لها ما أحبُ وما أكرهُ في الطِباع وفي الأكل أيضًا .. ذَكَرْتُ لها قائمةً طويلةً بالأكلات التي سيُحَرَّم طهيها في المنزل بعد الزواج، وكان على رأسها: البِصارة.
كنتُ أشعر بالاشمئزاز حينما أرى هذا الحساء الأخضر الغامض وهو يتحول من الحالة السائلة الساخنة إلى الحالة الصلبة الباردة في دقائقَ قليلةٍ .. لا أدري لماذا لم تُضَمُّ البِصارة - في منهج مادة العلوم - إلى قائمة المواد القابلة للتحول من الحالة السائلة إلى الحالة الصلبة، كالماء، في درس (التجمُّد)!.
****************
كنتُ في زيارةٍ خاطفةٍ بدون ترتيبٍ مُسْبَقٍ لبيت والدَيَّ منذ أيامٍ .. كان الوقتُ وقتَ غداءٍ .. أعدَّتْ لي أمي الغداء، وكانت المفاجأة عندما وَضَعَتْ على المائدة طبق الحساء الأخضر الغامض المعروف باسم (البِصارة).
"معلش يا ابني أنا عارفة إنك مش بتحبها بس أنا ما كنتش أعرف إنك جاي .. لو أعرف ما كنتش عملتها .. بس جرَّبها عشان خاطري .. هتعجبك والله".
هكذا قالت لي أمي في حرجٍ، فقلت لها في صدقٍ: "تسلم إيدك يا ماما .. إنتي عمرك ما عملتي حاجة وطلعت وحشة .. هجربها عشان خاطرك".
فَرِحَتْ أمي لإطرائي عليها وعلى طعامها، أو ربما فَرِحَتْ لأنني سأأكل البصارة من يدها لأول مرةٍ في التاريخ بعد مئات المحاولات التي فشلتْ في إقناعي بأكلها طوال سنوات ما قبل زواجي .. راحتْ أمي تستكملُ إعداد باقي مستلزمات أكلة البصارة من بصلٍ أخضرٍ ومخللٍ وزيتونٍ وليمونٍ و"تقلية" نثرتها على "وِش الطبق" فأعطته شكلاً جميلاً ورائحةً جذابةً.
تَرَدَّدتُ كثيرًا قبل أن أبتلع أول لقمة ببطءٍ مَشُوبٍ بالحذر .. فوجئتُ بطعم البصارة الذي غمرني بلذَّةٍ جامحةٍ ملأتْ كياني .. ما كل هذا الجَمَال؟! .. رحتُ ألتهمُ اللقمة تلو الأخرى في نهمٍ حتى فوجئتُ أنني قد أنهيتُ رغيفًا كاملاً في زمنٍ قياسيٍ دون أن أشعر .. سألتني أمي بعدما رأت علامات الرضا والاستمتاع على فمي الذي لم يتوقف للحظةٍ عن المضغ: "ها .. إيه رأيك بقى؟" .. أجبتها في انبهارٍ: "ودي حاجة محتاجة سؤال .. جميلة طبعًا .. هو أنا إزاي عدَّى 35 سنة من عمري من غير ما أدوق طعم البصارة؟! .. بصراحة ندمان على كل مرة كان ممكن آكل فيها البصارة ورفضت إني آكلها .. تسلم إيدك يا ست الكل".
ابتَسَمَتْ أمي ابتسامةً تحملُ مزيجًا من الفرحة والحنان والرضا والانتصار .. نعم .. الانتصار الذي جاء متأخرًا على ذلك الكائن الغبي الذي ظل خمسةً وثلاثين عامًا رافضًا أن يأكل البصارة، وها هو اليوم يأكلها مستمتعًا في نهمٍ دون خوفٍ.
****************
بعدما غادرت منزل والدَيَّ عائدًا إلى منزلي .. ظلت عدة أسئلة تتردد في ذهني تتمحور جميعها حول "خوفنا من المجهول".
لماذا نخاف من الإقدام على أمرٍ معينٍ دون أسبابٍ واضحةٍ؟
لماذا نفتقد الجرأة لتجربة شيءٍ جديدٍ لم نعْتَدْ عليه؟
لماذا تنسج عقولنا أوهامًا وهواجسَ تجاه كل ما هو مجهولٍ؟
لماذا تصنع أذهاننا حواجزَ وأستارًا أمام كل ما لا ندرك كنهه؟
لقد علَّمَتْني أمي اليوم درسًا – دون أن تقصد – عندما جعلتني أأكل البصارة لأول مرةٍ بعد سنواتٍ من إصراري غير المبرر على عدم تجربة أكلها ..
علَّمَتْني أن أُقْدِمَ بقلبٍ شجاعٍ على كل أمرٍ جديدٍ ..
علَّمَتْني ألا أدَع نفسي أسيرًا لأوهام عقلي ..
علَّمَتْني أن أغامر وألا أكون تقليديًّا حبيس ما تعوَّدتُ عليه ..
علَّمَتْني أن أكسر كل قيدٍ أُكَبِّل به طاقاتي ..
علَّمَتْني أن أُزيل كل الحواجز التي أصنعها وأن أُطلق لإبداعاتي العنان ..
علَّمَتْني أن أقتحم عوالمَ جديدةً لكي أكتشف كم كنتُ مغفّلاً عندما حرمتُ نفسي من الاستمتاع بتجربتها ..
علَّمَتْني ألا أخاف من كل مجهولٍ .. فربما ما كنتُ أتجنبه وأحسبه مخيفًا، يمكن أن يكون سببًا في تغيير حياتي للأفضل .. فقط عليَّ أن أُجَرِّب.
التعليقات
الاسلوب جميل وفيه لمحة كوميدية ممتعة, اعجبتني فكرة اننا نخاف من المجهول فلا نقدم على التجربة, لكن احب ان اعلق على هذا من تجربتي الشخصية ان الفشل في مواقف مشابهه هو السبب في بعض الاحيان من تجربة الجديد والمجهول.
شكرا على هذه المقاله الممتعه
مقال رائع و الأروع الفكرة التي أردت إيصالها