اضطرابات الشخصية وجنون العظمة.. وانهيار المُنهار - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

اضطرابات الشخصية وجنون العظمة.. وانهيار المُنهار

هيام فؤاد ضمرة

  نشر في 07 ديسمبر 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

اضطرابات الشخصية وجنون العظمة..

وانهيار المُنهار..

هيام فؤاد ضمرة..

عجيب هو هذا الإنسان بمدى تأثر حالته النفسية بالعمليات العقلية الكيميائية التي تحدد الحالة النفسية التي هو عليها، وعندما يكون مصاباً باضطراب الشخصية مما يتسبب بحدوث خلل كبير على نفسيته وعلى صحة تفكيره وقراراته، وتتحجر فيه إنسانيته لدرجة كبيرة، ويتحول إلى مجرد شيء بلا قلب ولا مشاعر ولا حتى عقل يعي ويميز أو يقدر قيمة الأشياء حق قدرها، ولا يكتفي إلى مجرد إلحاق الظلم والضرر على غيره، وعلى وجه الخصوص من يعتقدهم غرماء له، أو منافسون، أو معارضون، بل يتجاوزها إلى ارتكاب ما لا يمكن ارتكابه من الأذى والجبروت حد الوحشية، إذ أن نرجسيته تصور له غير المتصور، وتبيح له ارتكاب كل ما هو غير عادي بإسم السلطة التي يمتلكها، وهنا الطامة الكبرى.

فهو بالعادة يبالغ في تقدير أهميته، وحجم قيمته، وأيضا في تقدير مدى سلطته، كونه تتلبسه انشغالاته الخاصة مع نفسه ومع الأوهام المتكونة في عقله المريض، فهو رغم الذكاء المتوفر فيه؛ من الممكن أن يخونه هذا الذكاء في تقدير نتائج قراراته، فهو يعتقد أن كل ابداعات غيره لا تساوي شيئاً، هي مجرد هباء متطاير ينتفي بها الإبداع إلى جانب ما يملك هو، ولا يمكن تقييمه أكثر مما يستحق بعرفه، وهذه الانجازات لا تثير انتباهه ولا يوليها أي اهتمام.

ولديه توقعات غير منطقية في تقييم أعماله وسلطاته، ويعتقد أنّ له ناسه الذين يفهمون رغبته بمجرد الاشارة إليها، فيتملكهم بأي وسيلة مغرية يراها مناسبة لهم، ويسيرهم حسب أهواؤه ومنافعه الخاصة، لأن ذكاءه الشيطاني يستطيع الاستدلال على مفاتيح شخصياتهم الخاصة، فهذا النوع من الناس يضع كل همه في الفوائد العائدة له بالدرجة الأولى، فيجد ويجتهد ليضع كافة خططه بحيث يستفيد من الآخرين ويتسلق على أكتافهم إلى منافعه العليا، لا يهمه إن داس عليهم في النهاية لأجل ذلك، لأنه يعتقد أنهم جميعا مستفيدين منه بالقدر الذي يستحقون.

وهناك بون شاسع بين ما يشاع عن الشخصية النرجسية والشخصية المضطربة نفسياً، حيث يعتقد البعض أنهما هما نفس الشخصية وعليه يستعمل الكثيرون نفس المصطلح للتعبير عن الإثنتين، وإنْ كانت الحالاتان في كثير من الجوانب تتداخلان بشكل كبير، فالمتسم بفرط الغرور وحب الذات هو غير النرجسي المهووس بالتسلط والمتلذذ بالأذى، وإن ظهور الكثير من التناقضات والتعقيدات الإزدواجية تبين الفارق بين الحالتين..

فالشخص الذي يتميز بنمط الشعور بالعظمة؛ فحالته طويلة الأمد وعلاجه معقد، فهو دوماً بحاجة ماسة لقراءة علائم الإعجاب في وجوه الغير وأقوالهم وكتاباتهم، حيث نجده ممن يهتم بتفاصيل الأشياء وخاصة بمظهره الخارجي الذي يظهر به بين الجموع من الناس، ووفقاً لنظرية عالم النفس سيغموند فرويد فإن الشخص النرجسي يتميز بالعجرفة وشوفة الحال والغيرة من الآخرين، وكثيرا ما تواتيه حالة من فرط الحساسية تجاه آرائهم وعدم تقبلها، بل على الأغلب الأعم أنه يعمد إلى السخرية من كلامهم والطريقة التي يفكرون بها، ويسطّح هذا الفكر ويرى نفسه متفرد عليهم، وأنه مارد بعظمته أمام أقزام صغار.

شعور الأنا يستحوذ على عقله، ورغم ذلك فهو يعتمد على نيل قيمته القصوى في الحياة على الآخرين، أي تتضخم أنانيته لدرجة عظيمة، فشخصيته متمركزة حول ذاته، يظهر الجرأة لدرجة الوقاحة، ويتصرف على أنه الشخص الذكي والآخرين جملة من الأغبياء، فهو يفتقر إلى الاستقرار النفسي والسلام الداخلي، حيث يعاني من القلق المستمر، وتبدو عليه مظاهر الانفعال من النقد الموجه نحوه، ويحاول التحايل على المعاني بالتفسيرات والتبريرات ليجد لنفسه المبرر في ذهن الآخر، ويرفض سماع الرأي المخالف لرأيه وسرعان ما تصيبه النرفزة من نقدهم.

فيما الشخصية النرجسية هي شخصية مهتزة من الداخل في معظم الوقت، صلبة العواطف إلى درجة الجفاف، يحب التملك والظهور، ويرى نفسه صاحب الحق بالتصرف في مصير غيره، يستمتع بأذية مشاعر الآخرين بما فيهم أقرب الناس إليه، ويتلذذ بعملية الإيذاء النفسي والجسدي للآخرين بما فيهم أهل بيته، تنتابه مشاعر الغربة عن المكان ويشك بكل من حوله، ولا يعطي اهتماما للوقت، رغم أنه مثابر على العمل ويعرف كيف يلفت انتباه الناس إليه، ويحاول أن يقوم بأعمال تنال إعجابهم، إلا أنه يشعر دوما بأنه غير مستكف لحاجاته النفسية مما يجعله في حالة اضطراب ونرفزة.

والنرجسي لا يملك القدرة على التعايش الطبيعي مع شريك حياته أمداً طويلاً، رغم أنه بارع بالتلاعب بمشاعر الآخرين والتأثير على عواطفهم، ويستطيع أن يزيف نفسه ويدعي المثالية لقدر معين من الزمن، وبلحظة خاطفة ودون مقدمات تنقلب شخصيتة للحالة المعاكسة تماماً ويصبح شخصية لا تطاق.

فهو شخصية ملولة ضيقة الصدر، في داخل عقله مرجل غير مستقر إذا ما ثار سكب حمماً ونيراناً، يتكلف المواقف لهدف أساسي ليبدو فقط جذاباً في عيون الآخرين، ويتم امداده بمشاعر احترامهم وتقديرهم، ولتلبية احتياجاته الشخصية بشحنه من احترام الذات، ومثل هذا النرجسي لا يتغير مهما حاول ممن حوله مساعدته على التغيير، إلا في حالة واحدة حين تدفعه ظروف قاهرة كمثل ظروف صحية مثلاُ تعجزه عن مساعدة نفسه، فيسعى بأسلوب عاطفي مزيف لأن يستميل العواطف في سبيل الحصول على مساعدة وعواطف الآخرين.

ففي حكايا الميثولوجيا الإغريقية تبرز أسطورة الفتى (نرسيس أو نركسوس) صياداً من ثيسبيا فائق الوسامة، كان إبنا للإله كسيفيا، ووالدته الحورية ليريوبي، مغرورا بوسامته وجاذبيته، يعرض عن الاختلاط بغيره تأنفاً، تنبأ له العراف (تيرزياس) بأنه سيخلد بالحياة طالما لا يرى انعكاس وجهه على سطح مصقول كالمرآة، واستفز ذلك الآلهة (نسيس) فأغرته أن يشرب من ماء بحيرة صافية، فشاهد انعكاس صورته وأصابته الدهشة لوسامة هذا الوجه، فوقع بحب نفسه دون أن يدرك أن هذه مجرد صورته، وتوقف هائماً ولهاً عند الصورة لا يفارقها، حتى قضى ومات، وابتلعته الأرض ومن ثم أخرجته بصورة زهرة نرجس، أصبحت فيما بعد رمزاً للحب في اليونان إنما (حب موهوم بلا عاطفة صادقة) لأن نرسيس أو نركسوس أحب في واقع الأمر نفسه.

ومنذ ذلك الحين اشتق مصطلح النرجسية التي تعني حب الذات بجنون من قبل عالم النفس الأشهر سيجموند فرويد في العصر الحديث، لتطلق على العقدة النرجسية في جانب اضطراب الشخصية النرجسية، محدداً أعراضها في دليل التشخيص النفسي العالمي بتسع صفات (الغطرسة والأنفة والتعالي والغرور، استغلال الآخرين لحاجته القصوى للإطراء بصورة مستمرة، السفاهة، اللا مبالاة بمشاعر الآخرين، تضخم الشعور بالعظمة والمبالغة في الانجاز ولفت الأنظار، التمحورحور الذات، المنفعية الذاتية) وتمثل أسطورة نركسوس نمطا من أنماط حب الذات والتمحور كلياً حولها،

وتمر العلاقة العاطفية النرجسية في الشخصية بثلاث مراحل: تبدأ بمرحلة إظهار المثالية المبالغة والرعاية المفرطة لكسب ود الطرف الآخر إلى أن يتمكن من التأثير عليه وكسب وده، تتبعها مرحلة الهبوط المفاجئ وخفض قيمة وتقليل شأن الآخر، وتنتهي بالحالة المرضية حيث تظهر عليه كل الأعراض التي سبق ذكرها مع ميل واضح للعنف والتلذذ بممارسته.

وهناك ثلاثة أنواع من النرجسية (النرجسيون العاديون، النرجسيون المرضى، النرجسيون الحالة القصوى المؤذية) أو الخبيثون، ويؤكد العلم أن الصنف الثالث غالباً ما يتوفر بدرجات متفاوتة بين فئة المثقفين المبدعين والمشاهير ومن يملكون السلطة والتحكم بالرقاب، ويكون الأشد ظلما وجبروتا هم مالكي الرقاب الممسكين بزمام السلطة كون أيديهم تطول المال، والجاه، والقرار، والقوة، وسلطة إلقاء الأوامر والتلبية الفورية.

فنرجسية الحكام توفر لهم أجواء الممارسة النرجسية بكامل فصولها، فلا يرفض لهم طلباً مهما كان متجاوزاً حدود المعقول، ولا ترد رغباتهم ولا تحتمل التأجيل، فطلباتهم مجابة وأوامرهم نافذة، وإذا ما أتت النتائج على غير المرجو، سرعان ما يتم التضحية بالمنفذين دون أن تهتز به شعرة من احساس، ودون أن يتلقى المحاسبة من ضمير هو ميت بالأساس، بمعنى أنه أصلاً غير موجود.

ورغم قلة المصابين بالنرجسية القصوى، إلا أن مظاهرهم غالباً ما تطوف على السطح، كونهم من المشاهير وأصحاب السلطة وأولئك المسلطة عليهم الأضواء.. وهنا الطامة الكبرى، فتوريث السلطة من الممكن أن تجلب ورثاء مرضى نفسيين مضطربين نفسياً وعاطفياً، والتاريخ يحفل بالكثير من هذه النماذج التي تسببت بالنكبات والمآسي الإنسانية الهائلة وكادت تقضي على بعض الأجناس، وحكاياتهم الغريبة وأفعالهم المأساوية الدموية تفيض بها الكتب الصادرة، والتي ارتكبها هؤلاء بحمقهم المريض وغرورهم الناشز.

وقد لاحظنا خلال مراحل ما سمي عرضاً بالربيع العربي مثلا، كيف كانت قوة تشبث الحكام بمقاعدهم ورفض إرادة شعوبهم، لدرجة تسببهم بالمجازر البشرية والمآسي الإنسانية التي تفوق التصور، وممارستهم جميع الحيل والخدع لتوريط الجيش وكافة الأجهزة الأمنية بالجريمة، وحرق الجموع البشرية وحصد الأرواح بالآلاف في العملية الواحدة، ووصف شعوبهم بالجرذان والحشرات والخونة، وممارسة أشكال من السادية تفوق احتمال البشر وتشمئز لها النفس السليمة.

فما السر وراء هذه القوة الشيطانية والاستبسال المجنون من أجل التمسك بالمناصب العليا؟.. لولا استمرائهم بتحكمهم بالرقاب، وفرض أجندتهم الخاصة، وأيضاً فرض قيمهم العجيبة في ممارسة أعمال ساديتهم البغيضة نتيجة نرجسيتهم المريضة القصوى، وكبت الحريات، وتكميم الأفواه لدرجة ممارسة التصفيات والتعدي على الأرواح، لهدف تكريس حكمهم وممارسة دكتاتورياتهم بأريحية، وقد لاحظنا بعض الحكام كانوا على استعداد لإبادة شعوبهم عن بكرة أبيهم واستخدموا لذلك المرتزقة والجيوش الأجنبية بأعتى أسلحتها وامكانياتها.

وبعض الحكام مارسوا هجومهم على جيب المواطنين الفقراء، ومنعوا عنهم قدرات العيش الضروري، وباتوا في أغلبهم ملاحقين بالديون والفوائد، لتسديد فواتير الفساد في بلدهم وحماية الفاسدين والمفسدين أصحاب المصالح، والحاكم يسمع وكأنه ما سمع ويرى وكأنه لا يرى وحين يتكلم تخاله يدهن البسكوت عسلاً صاف فتتخدر الحواس ويطول الانتظار دون الوصول لقرار يحسم الأمور.

مع الأسف تلعب الشعوب دوراً داعما في ترسيخ نرجسية الحكام المستبدين والتسبب بقصم ظهورهم وتوريطهم بنوازع أنفسهم وخبائث ما يمور بها من خطط شيطانية تهدف أكثر ما تهدف لأمور مخبوءة ذات أجندة سرية تبغي ايصال الحال بالشعوب إلى قبول المرفوض والسكوت عنه والتساهل في فقد الحقوق

هذا يستدعي من العلماء النفسيين البحث بالحالة المستشرية التي باتت تقلق الشعوب ومستقبل الدول، وتضع العالم على طرف منحدر خطير سيودي بدول العالم الثاث بالذات إلى التهلكة في حدود بعض قليل من السنوات لا غير... فهل الشعوب العربية تتصور إلى أي مجهول رهيب تجر إليه في ظل عتو النرجسيات؟


  • 2

  • hiyam damra
    عضو هيئة إدارية في عدد من المنظمات المحلية والدولية
   نشر في 07 ديسمبر 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

آلاء بوبلي منذ 5 سنة
مقال رائع ، تعرفت على معلومات جديدة عن الشخصية النرجسية و الشخصية المضطربة نفسياً، و نرجسية الحكام التي لها تأثير كبير على الأوضاع الحالية ، يعطيكِ العافية أستاذتنا الفاضلة .
1
hiyam damra
يسعد صباحك ألاء بكل الخير.. أشكر مرورك على موضوعي وقراءته كما أشكر توقيعك الكريم ، الانسان كتلة من التكوينات النفسية التي لها تأثيراتها على الأوضاع الانسانية وكثيرا ما نقابل أشخاص تتضخم الأنا في عقولهم لتصبح تصرفاتهم تحتمل وصف النشاز بقدر معين
آلاء بوبلي
يسعد أوقاتك سيدتي العفو ، بالفعل .

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا