التاريخ حضاريًّا وإستراتيجيًّا إعادة موضعة التاريخ في تكويننا الثقافي - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

التاريخ حضاريًّا وإستراتيجيًّا إعادة موضعة التاريخ في تكويننا الثقافي

(تاريخ)

  نشر في 14 يناير 2016 .

مما لا شك فيه أن المسلمين على مر تاريخهم كانوا على وعي تام بأهمية علم التاريخ، ولذلك صنفوا فيه مصنفاتهم الكثيرة التي بلغت الذروة في الإتقان والمنهجية سواء في السيرة النبوية أو تاريخ الأمم قبل الإسلام أو تاريخ المسلمين أو كتب الطبقات المختلفة، وقد بدأ هذا الوعي مبكرًا من خلال كتاب السيرة كابن إسحاق وخليفة بن خياط وعروة بن الزبير وابن هشام وغيرهم أو مؤرخي المسلمين العظام كالطبري وابن الأثير وابن خلدون والمقريزي وابن تغري بردي وابن الفرات وابن إياس وكان آخرهم أعظم مؤرخي المسلمين في العصر الحديث وهو الجبرتي؛ مما يظهر لك أن التاريخ كان جزءًا رئيسيًّا في التكوين الثقافي العام للمسلمين ومناهجهم العلمية وهذه الورقة تمثل محاولة متواضعة لقراءة معاصرة في أهمية علم التاريخ.

• فللتاريخ تأثيره الجذري على طرائق التفكير والمعالجة للواقع والمتغيرات:

يدربك التاريخ على الخروج من طريقة التفكير الإطلاقية (أبيض/ أسود) بحيث يستطيع العقل من خلال القراءة التاريخية الإدراك الموضوعي للأمور والنظرة النسبية للقرارات السياسية والعسكرية، فعند قراءتنا لتاريخ نور الدين زنكي على سبيل المثال، نجد هذا الموقف في معالجة نور الدين زنكي لحملة الإمبراطور البيزنطي مانويل كومنين على الشام سنة 1158 م، حيث تم التحالف (قبل الحملة) بين الإمبراطور البيزنطي وبلدوين الثالث ملك مملكة بيت المقدس الصليبية على حرب القوى الإسلامية الناهضة بقيادة نور الدين زنكي، وكان هناك محددات لسياسة نور الدين تجاه الإمبراطورية البيزنطية تتمثل في:

o البعد الاقتصادي:- المتمثل في استمرار الصلات التجارية بين البلدين.

o البعد السياسي:- المتمثل في تحقيق التوازن في القوة في المنطقة من خلال تحييد الإمبراطور البيزنطي وعدم ارتمائه في تحالف مع الإمارات الصليبية، بمعنى آخر، تحييده في الصراع مع الصليبيين.

وقد كانت قوة الإمبراطورية البيزنطية في أوجها ويتبين ذلك من رواية المصادر الإسلامية لحالة الهلع من نزول حملة الإمبراطور البيزنطي في الشام، ولقد تعامل نور الدين زنكي مع الموقف من خلال الاتصالات الدبلوماسية والحشد العسكري القوي وتوصل من خلال المفاوضات إلى الآتي:

o تعهده بمساندة مانويل في حروبه ضد سلاجقة الروم، وترتبت على هذا الصلح نتائج إيجابية منها:

-أنهت التحالف البيزنطي الصليبي، وكان على الصليبيين أن يعتمدوا على أنفسهم أو على مساعدات أوروبا في صراعهم مع الزنكيين.

-حفظت وحدة بلاد الشام.

-أعادت التوازن بين الصليبيين والزنكيين بخروج البيزنطيين من الساحة ومن ثم عاد الصراع بينهما على مصر متوازنًا مرةً أخرى.

وتمت هذه النتائج بتقديم تنازلات غير عادية، فقد اتخذ نور الدين خطوة يصعب تقييمها إلا بوصفها من قبل القرارات الصعبة المصيرية والتي تُظهر بجلاء التفكير العقلاني الذي يوازن بين المصالح (نسبية النظر للمصالح والمفاسد)، فليست المسألة كون البيزنطيين كفارًا كالصليبيين (أبيض/ أسود) وإنما تحديد الموقف حسب المصالح وحسابها بشكل براجماتي ومبدأي في نفس الوقت، فنور الدين قدر أن معركته الحالية ضد الصليبيين وليست ضد البيزنطيين، فوازن بين الإطاحة بمشروعاته على يد الحملة الصليبية البيزنطية وبين الوقوف ضد سلاجقة الروم (والذين تم الصلح معهم لاحقًا) فاختار الخيار الثاني أي تفاهم مع الإمبراطور البيزنطي ضد السلاجقة فقبل الإمبراطور وانسحب من الحلف الصليبي فأوقف الحملة وزال الخطر.

تنمي القراءة التاريخية الصحيحة التفكير العقلاني وتناقض طريقة التفكير العاطفية، فنجد أن القراءة المعتادة للحروب الصليبية ورد فعل المسلمين عليها تتلخص في وصف الحروب الصليبية والمذابح التي قام بها الصليبيون ضد المسلمين ثم تقفز قرابة نصف قرن إلى مرحلة الانتصارات العسكرية الإسلامية على يد نور الدين زنكي ومن بعده صلاح الدين الأيوبي، فتنتج هذه القراءة رد فعل عاطفي يتمثل في حرق المراحل والدخول في مراحل قبل أوانها عند التعامل مع واقعنا المعاصر، ولكن القراءة المتعمقة والمتأنية لهذه المرحلة التاريخية تظهر بجلاء أنه كان هناك مشاريع إصلاحية على يد الغزالي ثم الجيلاني، هي التي أوصلت الحالة الإسلامية عبر مراحل متعددة إلى انتصارات نور الدين وصلاح الدين، وبالتالي فهذه القراءة الأخيرة هي التي تنتج التفكير العقلاني الذي يتفهم طبيعة المراحل وأهداف كل مرحلة ومفاصل القوة المطلوبة لكل مرحلة.

• القراءة التاريخية الصحيحة تظهر حقيقةً ومبدأ هام في التغيير والحركة والعمل وهو (الإمكان التاريخي) وبطلان الجبرية، أو ادعاء البعض أنه لم يكن هناك خيارات أخرى فنجد مثلًا في سرد الإخوان المسلمين في مصر لتجربتهم مع عبد الناصر وأزمة مارس سنة 1954 م، نجد الإخوان يركزون على المظلومية التاريخية والمؤامرة، وأنه لم يكن في الإمكان شيء آخر، ولا يتوقفون أبدًا لنقد فضيلة المرشد المستشار حسن الهضيبي رحمه الله وجماعة الإخوان في تعاملهم مع العسكر وأنه في الحقيقة كان هناك خيارات أخرى لتجنب الصدام والمناورة.

ويظهر هذا الأمر بجلاء عند المقارنة مع الحركة الإسلامية في السودان التي أدركت مبكرًا أن العائق الأساسي أمام المشروع الإسلامي هو العسكر وأن هذه المؤسسة هي أول مؤسسة تم علمنتها في بلاد المسلمين واستغلوا فرصة حاجة النميري للتحالف معهم فقبلوا هذا التحالف وعملوا على التغلغل داخل مؤسسات الدولة بهدوء وتجنب أي معارك جانبية رغم استفزاز النميري لهم أكثر من مرة حيث تغلغلوا داخل مؤسسات هامة وأهمها الجيش لتحقيق القوة النوعية (الاقتصاد – الدعاية – العسكر) اللازمة للتغيير؛ مما مكنهم من عمل انقلاب عسكري عام 1989 والسيطرة على السلطة في السودان وهذا يبين لك مسألة الإمكان التاريخي وبطلان الجبرية وأنه هناك دائمًا خيارات أخرى.

• التاريخ هو مخزن الإستراتيجي، حيث إن به كمًّا كبيرًا من الروايات والأحداث العسكرية، التي هي ذخيرة لأي مفكر إستراتيجي، وفي الجيوش الغربية يوجد ما يسمى بالمؤرخ الإستراتيجي وهو الذي تتجمع لديه الوثائق الخاصة بالمعارك السابقة في صراع معين ليستخرج منها الصورة الكاملة والصواب والخطأ في التجربة والأسباب التي أدت إلى النتائج السابقة للاستفادة من كل هذا في الحلقة الجديدة من الصراع.

• التاريخ هو مخزن السياسي، حيث إن التاريخ هو المسرح العملي للسياسة الذي يُستفاد ويُستخرج منه القواعد وتُختبر فيه مصداقية النظريات، وهو يعطي السياسي خبرة عميقة في المعالجة السياسية من خلال الكم الهائل من الخبرات الإنسانية في سياسة الأمم، ومن الملفت للنظر أننا نجد دولة عظمى كالولايات المتحدة تكرر نفسها إستراتيجيًّا باعتماد إستراتيجيات سابقة، فعلى سبيل المثال مبدأ “جوام” عام 1969م والذي أعلنه “نيكـسون” وتم بمقتضاه فتنمة الحرب في فيتنام، واكتفاء الولايات المتحدة بالدعم اللوجيستي، ووجود المستشارين العسكريين الأمريكيين وهي نفس الإستراتيجية التي اعتمدت في أفغانستان والعراق بعد ذلك.

• التاريخ يوضح أصول الأفكار والفلسفات، فلفهم الليبرالية مثلًا لا بد من العودة لأفكار لوك وفولتير ومنتسكيو وتطور الأفكار لديهم، ولفهم قضية القوميات في أوروبا في القرن التاسع عشر لا بد من الرجوع للثورة الفرنسية وتاريخها، ولفهم ظهور القومية في بلاد المسلمين لا بد من الرجوع للاحتلال الفرنسي لمصر عام 1798م وما تلاه في عصر محمد علي وخلفائه، وسياسات العلمنة التي اتخذت بمصر، وهكذا فالتحليل التاريخي يبحث في جذور الحدث الحاضر وليس النظر إلى الحدث الحاضر ومسبباته المباشرة كما يفعل التحليل السياسي.

فعند النظر إلى مشكلة مياه النيل وسد النهضة لا بد من العودة إلى الجذور التاريخية للمسألة حتى نفهمها بعمق أكثر، وهذا ينقلنا إلى قضية محورية في العلم عامة، وهي أن العلوم لا تعطي الأفضلية بشكل مطلق وإنما الأفضلية نسبية، فمثلًا لا نستطيع القول إن التاريخ أفضل العلوم وإنما لكل علم ميزته النسبية والعلوم متكاملة، وقد أشار العلامة جمال حمدان إلى ذلك بقوله ]التاريخ هو الجغرافيا المتحركة والجغرافيا هي التاريخ الساكن[، فلا نستطيع في مثالنا السابق وهو مشكلة سد النهضة وطريقة الخروج بحلول للأزمة، إلا أن نعمل كلا التحليلين التاريخي والسياسي، ولفهم السلوك العلماني والأفكار العلمانية لدى الشعوب المسلمة لا بد من تحليل الأمر تاريخيًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا وسياسيًّا، وهكذا.

• القراءة التاريخية لتاريخ المسلمين ينتج فهم النظرية السياسية عند المسلمين، من حيث دور الدولة ووظيفتها وعقيدتها وبالتالي فهو يجعلنا نفهم عمق الخلل في الرؤية العلمانية للدولة عند المسلمين وخطأ تقييمها من خلال أدوات الحداثة في التقييم، أي من خلال النظرية السياسية عند الغربيين، وهو خطأ ظاهر حيث تُقيَّم الدولة الإسلامية بمعايير وقيم واقترابات أجنبية عنها، وهو يفيد أيضًا في الوصول إلى تصور واضح تفصيلي للدولة الإسلامية في الواقع المعاصر، وهو يعطي أيضًا خبرة عالية في التعامل مع مشاكل الأقليات مثلًا في بلاد المسلمين.

• القراءة التاريخية تنتج فهم الأهمية القصوى لوجود إستراتيجية للخروج من المأزق الحضاري الراهن فعند المقارنة التاريخية بين تجربة مواجهة الحروب الصليبية (مدرسة الغزالي والجيلاني وحركة نور الدين وصلاح الدين التي سبق الإشارة إليها) توضح أن هناك إستراتيجية طويلة المدى للتعامل مع الخطر الصليبي واستمرت هذه الإستراتيجية في التطبيق حتى عهد السلطان المملوكي الأشرف خليل الذي قضى على الوجود الصليبي تمامًا في فلسطين وفي البحر المتوسط.

قارن ما سبق بعهد السلطان سليمان القانوني ووزير بحريته خير الدين بارباروسا (مع عظيم فضلهما في الجهاد في سبيل الله) ورؤيتهم القاصرة التي لم تتجاوز أهدافها إعادة الأندلس، والتي جهلت تمامًا أبعاد التغير الحضاري والإستراتيجي في أوروبا، حيث سبق ذلك بقليل قيام هنري الملاح – الابن الثالث لملك البرتغال– بوضع إستراتيجية متكاملة لتطويق المسلمين من الشرق لضرب الدعامة الاقتصادية للقوة العسكرية الإسلامية وهي البداية الحقيقية للتفوق الغربي على المسلمين والتي مهدت الطريق للاحتلال المباشر بعد ذلك لبلاد المسلمين، فمن خلال التجارب التاريخية السابق ذكرها يتبين حتمية وجود رؤية إستراتيجية متكاملة للخروج من المأزق الحضاري الراهن.

• التاريخ هو الذي يوضح ويشرح مراحل النهضة ودور النخب المؤهلة لإحداث النهضة فالقراءة التاريخية لنهضة أوروبا تثبت أن الخطوة الأولى لهذه النهضة كانت في إيجاد النخبة التي أنتجت النموذج المعرفي الغربي الذي قامت عليه الحضارة الغربية في العصر الحديث، والناظر في نهضة الميجي في اليابان 1868 م وما بعدها والتي قامت على أيدي نخبة من الساموراي والتي أنتجت نهضة وقوة يابانية ناهضة أصبحت القوة الرئيسية الأولى في شرق آسيا في مدى أربعين عامًا من بداية العمل النهضوي الياباني.

• التاريخ أصبح من شروط تكوين المجتهد في الواقع المعاصر، فمن خلاله يفهم المجتهد السياق الخاص بالنص والبيئة التي نزل فيها وكيف فهمه الصحابة وطبقوه، ولا يستطيع إدراك عمل أهل المدينة كدليل وأصل من الأصول على سبيل المثال إلا من خلال التاريخ، فالتاريخ أصبح من بعد فقدان حركة التواصل العلمي الإسلامي جزءًا من أدوات الاجتهاد لأننا الآن بصدد إحياء علمي جديد، حيث إن فهم النصوص وسياقاتها كان مبثوثًا في عملية التعليم الشفهي لدى المسلمين والتي فُقدت الآن بفقدان حركة التواصل العلمي.

• التاريخ له دور رئيس في تكوين الهوية وغرسها في النفوس، وقد استخدمه الغربيون في غرس الهويات المتخيلة (كما يعبر بندكت آندرسون في كتابه “جماعات متخيلة”) في شعوبهم، فمن خلال قراءة متعسفة للتاريخ ثبتوا الهويات القومية لدى شعوبهم، وهذا ما فعله الرافعي أيضًا عند كتابته لتاريخ مصر حيث إنه من خلال قراءة متعسفة للتاريخ عمل على ترسيخ وجود روح وطنية خامدة على مر العصور في مصر وظهرت على يد محمد علي، وتجد مظاهر هذه القراءة المتعسفة للتاريخ في اللغة الجذابة التي يكتب بها التاريخ الأوروبي بل وإبراز المراحل المضيئة في هذا التاريخ كالمرحلة اليونانية والرومانية وفي نفس الوقت الإغفاء عن عشرة قرون من الظلام عاشتها أوروبا في العصور الوسطى، بل تركز كثير من الكتابات الأوروبية الحديثة الآن أن هذه المرحلة لم تكن كلها ظلام بل كان فيها إضاءات حضارية، ثم التركيز على المرحلة الحديثة في التاريخ الأوروبي وإبراز التفوق الحضاري والهيمنة الغربية وكأنها نهاية التاريخ. وفي المقابل للتاريخ أهميته القصوى في ترسيخ هوية أصيلة كالهوية الإسلامية في نفوس المسلمين.

• للتاريخ دور رئيس في تكوين الوعي الجمعي لدى الشعوب تجاه حالة الصراع مع الأمم الأخرى كالترويج لمركزية أوروبا في التاريخ والحضارة، وهي النظرة التي كانت لها آثار سلبية خطيرة على كل المؤرخين في أنحاء العالم من اعتماد هذه المركزية، وأن بقية الشعوب عالة على هذه الحضارة الأوروبية رغم أن الشواهد التاريخية المتكاثرة تدحض هذه النظرة كما بين ذلك جون هندرسون في كتابه (الجذور الشرقية للحضارة الغربية)، وأيضًا ترويج الأوروبي لأفكار معينة عن الشعوب الأخرى كقولهم مثلًا أن الأفارقة لم يكن لهم يومًا حضارة وأنهم ليسوا مؤهلين لأي إنجاز حضاري؛ مما يبرر ما يسمى (عبء الرجل الأبيض) ودوره في نشر الحضارة بين هذه الشعوب من خلال استعمارها وللأسف في بلاد المسلمين يستخدم التاريخ كإذكاء للعواطف أو الدروس الوعظية ولم يفهم دوره الخطير بعد في تكوين الوعي الجمعي للمسلمين تجاه الصراع مع الغرب وهيمنته الإدراكية والمادية على بلاد المسلمين.

• يُظهر التاريخ المظاهر الحضارية للأمم، وبالتالي لا بد من قراءته حضاريًّا سواء في النواحي السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو العسكرية، بحيث يتكون لدى القارئ الوعي بالحضارة وضرورتها ومراحلها.

واستكمالًا للفائدة، لا بد من الانتباه لعدة أمور عند القراءة في المراجع التاريخية الحديثة:

• لا بد من الحذر من الاستغراق في الماضي والعيش فيه والانعزال عن الحاضر وهي حالة نفسية وعقلية قد تصيب المؤرخ أو القارئ للتاريخ وهي تؤدي به إلى الانعزال عن الواقع وعدم القدرة على التعامل معه، وهي حالة أصابت الإسلاميين عند قراءتهم لسير السلف، فينقل أفعال السلف للواقع حرفيًّا رغم أن أفعال السلف ليست حجة ولكن الحجة هي فهم السلف.

• لا بد من الحذر من (خلط الأزمنة) وهو فهم سياقات تاريخية معينة في مرحلة زمنية معينة في إطار ظروف أخرى في مرحلة زمنية أخرى، كما يفهم البعض مثلًا ظروف مصر في العصر العثماني المملوكي في إطار قيم الحداثة وظهور القوميات وفهم تاريخ مصر في هذا الإطار حيث هنا ننزل مفاهيم حادثة خاصة بعصر متأخر على عصور أقدم لم تكن فيها هذه المفاهيم، حيث كانت الهوية إسلامية وليست قومية، ولا نستطيع مثلًا لفهم طبيعة شعب إقليم معين كمصر أن ننقل كلام المقريزي أو غيره عن الشعب المصري في زمنه ونقيم تعميمًا على الشعب المصري بناءً على ذلك حيث إن الشعوب تتغير خصائصها باختلاف الأزمنة والعصور والظروف والمؤثرات التي تمر عليها.

• لا بد من إدراك غياب القيم تمامًا (العقدية أو الشرعية أو الأخلاقية) عن التقييم التاريخي للمؤلفات الحديثة، وهذا ناتج عن الفلسفة الحاكمة لمنهج البحث التاريخي الحديث وهي الفلسفة الوضعية لأوجست كونت والتي تنفي أي دور للقيم في التقييم العلمي، أضف إلى ذلك مبدأ النسبية عند الحداثيين والذي يجعل الأمور كلها من حيث التقييم نسبية وبالتالي فالأخلاق مثلًا نسبية، فلا يصح التقييم بها عندهم.

• لا بد من إدراك أن الإشكال في تفسير التاريخ في المراجع الحديثة لا يتوقف عند الفلسفات المعروفة من ليبرالية أو ماركسية أو غيرها، وإنما قد يكون المؤرخ لا يتبنى أيًّا من هذه الفلسفات ويعتمد فقط على الوثائق وما تنتجه ولكنه لتكوينه الثقافي العلماني بنشوئه في المجتمعات العلمانية الحديثة، أصبح يفهم التاريخ في إطار قيم الحداثة، والمحاولات الجادة التي تخالف هذا النهج – ورغم أنها أنتجت نتائج علمية مبهرة – كدراسة تيموثي ميتشل (استعمار مصر) أو دراسة خالد فهمي (كل رجال الباشا) والتي خرجت من إطار أدوات الحداثة إلى إطار أدوات ما بعد الحداثة كمفهوم السلطة الانضباطية وأدواتها عند فوكوه وتفكيكية ديريدا للغة.

وحتى دراسات نيللي حنا لتاريخ مصر العثمانية أو دراسة بيتر جران (الجذور الإسلامية للرأسمالية) والتي خرجت بنتائج إيجابية مختلفة عن المعتاد في المدرسة الأكاديمية التاريخية المصرية فيما يتعلق بمصر العثمانية، هي أيضًا تتعامل في إطار قيم الحداثة ومشكلتها ليست مع الحداثة وقيمها وإنما أن الحداثة بدأت مبكرًا في تاريخ مصر العثمانية، وهذا لا ينفي قيمة هذه المؤلفات وفائدتها.

ما سبق بيانه من محاذير وتنبيهات يبين لك حجم الإشكال الحضاري الذي يواجه المسلمين بالنسبة لعلم التاريخ، فلا يوجد لدينا منهج بحثي تاريخي خاص بنا، ولا يوجد مؤلفات تاريخية تدور في إطار النموذج المعرفي الإسلامي، بل لا يوجد لدينا رؤية متكاملة لفهم التاريخ حتى الآن، وإن كانت هناك محاولات كمحاولة أسامة حميد في مقدمة موجز تاريخ مصر وما قدمه مالك بن بني في كتاباته عن الحضارة والنهضة وعماد الدين خليل في كتاباته عن القوانين التاريخية.

فالمسلمون يعانون في الحقيقة من نوعين من الهيمنة:

هيمنة إدراكية: سواء من الأفكار العلمانية من ليبرالية وماركسية وفوضوية وغيرها، أو سيطرة النموذج المعرفي الغربي بأدواته البحثية واقتراباته المنهجية على العلوم والمعارف، أو انتشار قيم الحداثة وثقافة الاستهلاك بين عموم المسلمين.

هيمنة مادية: (سياسية اقتصادية عسكرية)

ولذلك يجب على المسلمين إيجاد رؤية إستراتيجية للتعامل مع كلا النوعين من الهيمنة، ولن يتحقق ذلك إلا بإيجاد الخطوة الأولى وهي إيجاد نخبة مؤهلة قادرة تدرك هذه التحديات وتستطيع التعامل معها.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين


  • 1

  • وائل توفيق محمد
    باحث في التاريخ و العلوم السياسية، و باحث في مركز الإمام الغزالي للدراسات، حاصل على ليسانس آداب قسم الدراسات التاريخية، و حاصل على دبلومة في العلوم السياسية، و أقوم الآن بعمل ماجيستير في التاريخ الأمريكي، أبلغ من ...
   نشر في 14 يناير 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا