مهاجِرٌ .. بلا حقائب
نحو هجرةٍ صحيحة ..
نشر في 12 ديسمبر 2015 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
* حينَ يُقصفُ بيتُك و تبورُ تِجارتُك و تُهدّدُ حياتُك و تَطلبُ الأمنَ في دارِكَ فلا تجِدُه , حينَ تُحرَمُ من أبسطِ حُقوقك و تصيرُ الخدماتُ من ماءٍ و كهرباءٍ و سواهُما أكبرَ توجُّساتِك , فلا تأمَنْ نفسَكَ و أهلَكَ ظُلماً قد يقع و عِرضاً قد يُنتَهَك , يضيقُ الوطنُ بِك و يحينُ أوانُ الرحيل .
شعورٌ قاسٍ أن يترُكَ الإنسانُ أرضهُ التي وُلِدَ فيها و السماءَ التي عاشَ تحتَ ظِلالها لكنَّ الأقسى أن ترى تِلكَ الأرضَ و أنهارُ الدماءِ فيها لا تنضُب و براميلُ المُتفجِّراتِ من سماءِها لا تنقطع , فلا يبقى بُدٌّ من المُغادرةِ مُجبراً لا مُخيّراً , مُضطّراً لا راغباً , و في النفس شيءٌ مما قالَ الحبيبُ صلواتُ اللّهِ و سلامُهُ عليه حين أُخرِجَ من مكة : "و اللّهِ إنَّكِ لأحبُّ أرضِ اللَّهِ إليَّ و لولا أنّ أهلَكِ أخرجوني مِنكِ ما خرجت ,, " .
* ليستْ كُلُّ الهجرةِ واحدةً , بل هي على أنواعٍ شتّى و صُنوفٍ عِدّة تَصُبُّ جميعُها في خندَقينِ اثنينْ يتمايزُ عِندَهُما المُهاجِرونَ و يتفاضلُونَ فيما بينهم , فإمّا هِجرةٌ صحيحةٌ ناجحة و إمّا هِجرةٌ خاطِئةٌ فاشلة . إنّ أنواعَ الهِجرةِ تختلِفُ من شخصٍ إلى آخر و من عائِلةٍ إلى أُخرى و حتى ضِمنَ العائلةِ الواحدة قد تكونُ هجرةُ أحدِ الأفرادِ ناجحةً مُثمِرةً تعودُ عليهِ بالشُكرِ و الثناء و تُولّدُ بينهُ و بينَ المُضيفِ شيئاً من الأُلفةِ و الوئام , فيُقالُ حينَها : " نِعْمَ الهِجرةُ هِجرتُكَ و نِعْمَ شريكٌ جديدٌ في الوطنِ أنت " , في حِين تكونُ هِجرةُ أخيهِ الآخر فاشلةً قاحِلَةً ترتدُّ إليهِ بالسُخطِ و سُوءِ المُعامَلَةِ حتّى يُقالَ له : " بِئْسَ الهِجرةُ هِجرتُكَ و بِئْس الشريكُ الثقيلُ أنت " .
- الاختلافَ بين الهِجرتينِ يبدأُ في اللحظةِ التي أُخِذَ فيها قرارُ الرحيل , فمُهاجِرٌ حملَ وطنَهُ في قلبِهِ و خرجْ , هو مُهاجِرٌ بلا حقائب , عَلِمَ أنّ الطريقَ طويلٌ , شاقٌّ , و صعب , و لا شيءَ يستحِيلُ أمامَ الإرادة و الصبرِ و الاستقواءِ باللّهِ عزّ و جل , فخَرَجَ ليبنِيَ حياةً جديدةً من القاع , و يعمَلَ و يُشارِكَ بما يُتقنْ كي لا يكونَ عالةً تَستَهلِكُ فقط و لا تُنتِج , داعِياً إلى اللّهِ في خُلُقِهِ و أدبهِ و نمطِ حياتِه , لا مُتعالِياً على أحد و لا مُتجاوُزاً لقوانينِ أحد و لا مُؤذياً لأحد و لا شيخاً و إماماً على أحد , هو المواطِنُ الجديدُ الذي جاء يطلُبُ الأمنَ و الأمانْ , مُنتَظِراً حُقُوقَهُ , مُتعهّداً بأداءِ واجِباتِه . أمّا المُهاجِرُ الثاني فهو الذي حَمَّلَ حقائِبَهُ و أثقَلَها و راحَ يطلُبُ حياتَهُ التي اعتادَ عليها في وطنِهِ , يتذمّرُ مِن كُلِّ شيءٍ مهما كانت قيمَتُه , و لا يُعجِبُهُ أيُّ شيءٍ مهما عَظُمَتْ هامَتُه , فتصيرُ الحياةُ أسوأ و التأقلُمُ أصعب و يستَحِيلُ الرِضا فيَطلُبُ العودةَ و يتيهُ في جهلِه , لا هو يرضى بواقِعِهِ الجديد و لا هو سيرضى لو أنّهُ عادَ حقّاً ! .
- نحنُ و للأسف اعتدنا الكسلَ و الفتور و لا أُبالِغُ لو قُلت أنّ أغلَّبَنا أرادَ الهِجرَةَ إلى دول الغرب طمعاً في المردودِ المادي الذي قِيلَ أنّهُ يأتي دون تعبٍ أو جُهد , فتتدافَعنا أمامَ السفاراتِ الغربيّةِ و في مراكِبِ الموتِ في عَرْضِ البِحرِ لكي نجلِسَ دونَ عملٍ ننتَظِرُ في نِهايةِ الشهرِ أن تمتَلِأَ حِساباتُنا البنكيّةُ بالأُعطِياتِ و التعويضات و هذا و إنْ كانَ بعضُهُ الآنَ مُمكِناً لن يدوم , لأنّ الشعوبَ الغربيّةَ ما اعتادَتِ الكسلَ أسلُوباً للحياة و لا مَنهَجاً للتقدُّمِ و التطور , بل هو العملُ الذي لا ينتهي ليلاً و لا نهاراً , و الكَدُّ الذي لا ينقَطِعُ شهراً و لا دهراً , و البحثُ و العِلمُ و الجُهد , هو ما أوصلَها إلى القوّةِ و السيطرةِ و الريادة .
- هُمُ اليوم يستقبِلوننا و يُحسِنونَ إلينا و يأتي الرُؤساءُ مِنهُم و الوُزراءُ إلينا لِعِلمِهم بأنّ بِذرةً نقيّةً فينا قد تُثمِرُ و تُزهر إذا ما لاقتْ تُربَةً خصبةً و مُجتَمَعاً مُحفِّزاً يسقِيها و يُنمِّيها , و ينتَظِرونَ مِنّا أن نكونَ فاعلينَ مُنتِجينَ ذو قيمةٍ و مردود , لا أن نكون عِبئاً يُثقِلُ كاهِلَهُم و يُثيرُ سُخطَ شُعوبِهم لاستِقبالِهِم إيانا . صلاتُكَ في الساحاتِ المفتوحةِ , و عباءَتُكَ التي كُنتَ قد اعتدتَ ارتداءَها , و ثِيابُ زوجَتِكَ السوداءِ , و أحادِيثُكَ التي لا تنتهي عن الإسلامِ و أنتُم في النارِ و نحنُ في الجنّة , و استحضارُ تاريِخِكَ الذي كانَ فيهِ اجدادُكَ أسيادَ ذلِكَ الزمان , كُلُّ هذا يُسيُ لكَ و لقومِكَ و لدِينِكَ و لمن قَبِلَ و يَسّرَ استِقبالَكَ من الساسةِ أكثرَ مِمّا ينفع , فاحترم عاداتِهِم و تأقلم مع تقاليدِهِم بما لا يَمَسُّ مُعتَقَداتِكَ و لا يُخالِفُ تعاليمَ دينك .
* الخيارُ في يدِكَ أنتْ , أنتَ فقط , فإمّا أن تكونَ على قدرِ الإحسانِ الذي يُقدّمُ إليك و تصنَعَ سُمعَةً برّاقةً تُلصَقُ فِيكَ و تُثابُ عليها فتكونَ " مُهاجِراً بلا حقائب " عَمِلَ لهِجرتَهُ و قدّمَ لها , و إمّا أن تكون صِفراً عربيّاً لا يُسمِنُ و لا يُغني من جوع , و اعلمْ أنّ الأرضَ الطاهِرةَ التي هاجرتَ مِنها أرضُ الرِباطِ و الجهاد فاجعلها دائِماً و أبداً حيّةً في قلبكَ و احفظها و إنْ كُنتَ بعيداً عنها . أحسِنْ لمن أحسَنَ إليك تَكُنْ أفضلَ البشر .
-
محمد صبحي خطاب - Suphi Hatipoğluشابٌ مُهتمٌ بأوضاعِ العالمين العربيّ و الإسلاميّ .