تميل الجماهير إلى التعمق في تفاصيل المبدعين والعباقرة، وأكثر من هذا تراهن على مطابقة سلوكاتهم الانسانية مع سلوكاتهم الابداعية، وبالتالي فهي تنتظر من المبدع أن يكون طيبا خلوقا متواضعا وصاحب موقف بناء على ما يقدمه على ساحته من ابداع او نظريات او اكتشافات، فان بدر منه العكس مجته ولفظته واستخفت بمنجزاته ..
الكفاءة أم الأخلاق؟
المشكلة هنا لا تكمن في الجماهير التي تنشد الكمال في الإنسان المبدع من حيث يكون فعالا وجيدا في الوقت ذاته، ولا الخلل كامن في المبدع الذي يكون غالبا في سعة من امره انسانا له عيوب ومميزات ككل خلق الله .. المشكلة كلها تكمن في جدلية #الكفاءة_والأخلاق هذان العاملان اللذان لا يتوفران بالضرورة في شخص واحد ولا يستسلزم اي منهما وجود الاخر..فليس كل مبدع طيب خلوق وصاحب موقف، ولا كل خلوق بالضرورة عبقري او فنان.. بل إن التاريخ يثبت ان الكثير من سادة عصرهم في مجالهم كانوا في حياتهم الخاصة وفي مواقفهم فاشلين اخلاقيا بامتياز ..
الضجة التي اعقبت وفاة العالم المصري احمد زويل خير دليل على حيرة الجماهير وتأرجحها بين شقي هذه الجدلية، صحيح انه عالم مرموق لكن ماذا عن مواقفه؟ هذا هو السؤال الذي يضرب كل محاولة للاعتداد به عرض الحائط..!
برأيي الأصح في هذا السياق هو أن نفرق بين الكفاءة كمجال ابداع وبين الاخلاق كمساحة خصوصية .. و بالقليل من الحياد و النفعية سنجد ان المواقف امور نافلة بالنسبة لغير المعني بها، ذلك لان المبدع وحده هو المسؤول عنها وسيحاسب بها..اما نحن فمعنيون بالعطاء الذي قدمه مادام عاما وفعالا..
ملاحظة: يدخل في مفهوم المبدع العالم والمكتشف و الفنان وكل من يقدم انجازا ملموسا ينفع الناس .. أما الاعلامي و السياسي و الداعية والمعلم وكل ما يتصل بصنع الوعي والواقع فهؤلاء يوزنون بمواقفهم لا بشيء آخر..
ضريبة الإبداع
المبدعون رائعون فيما يقدمونه، أما العاديون فبذواتهم أروع، يتركز تميز المبدع كله في إبداعه، كأن جماله الداخلي كله يتسرب إلى إنجازه وينصب متجسدا في عمل محسوس، ومن ثمة تنضب روحه من جملة القيم التي استهلكت في حالة إنهاك إبداعي..
المبدعون في الأغلب انطوائيون او متعجرفون أو أنذال .. أو يعانون من إخفاق أخلاقي أو خلل اجتماعي أو نفسي على أقل تقدير.. والانبهار الذي يتلقونه في الأغلب موجه لما يصنعونه وليس لذواتهم التعبة المنهكة والبائسة في الكثير من الأحيان، هكذا هم نقص أرواحهم منبعث أساسا من الجمال الكامل المجتزء منها والمجسد على أرض الواقع كنص أو لحن أو لوحة أو اختراع..
عكس ذلك، وحدهم العاديون الذين يلتصق جمالهم بذواتهم لا بعنصر خارج عنها أو مقضوم منها..إنهم الطيبون، الرائعون، المندهشون، الساذجون البسطاء .. الذين يفهمون السعادة على أبسط أشكالها، ويتبنونها بأرواح كاملة لا بأرواح مقضومة..
إن الإبداع ليس مجانيا، وضريبته أغلى من نتاجه، إنه يقايض بالروح أو بجزء منها، وثمنه نضوب لا ارتواء بعده..
التمرد محنة أحيانا
إن الإبداع هو ضرب من ضروب التمرد، يأتي بداية بجريرة الملل من القديم والتقليدي والمتعارف عليه ثم يتحول إلى خروج عن الطوع وتحطيم عنيف للقوالب، كمايقترن الإبداع عادة بالجنون، بالخروج عن المعقول، باللامعقول، ذلك لأن الانسان المبدع يحاول أن يخلق حوله بيئة تتكيف مع روحه المتفردة، مع نظرته الغريبة للحياة، ولهذا هو دائما في صراع مع العالم المحيط به.. وفي غالب الاوقات يقف بمعزل عنه ..فالناس في نظره مملون ونمطيون ..وهو في نظرهم مجنون وغريب الأطوار..
تكبر دوامة التمرد و تتضخم وتبدأ من تفاصيل صغيرة في المجال ثم تتسع لتطال قوالب الأعراف والأخلاق والذوق والقيم، فثمة من المبدعين من يقفز على أسوار الحياء ويكشف استار اللغة فيخط نصوصا بأسلوب خادش بذيء، أو يرسم لوحات خليعة، أو يؤلف لحنا ماجنا أو ينحت تمثالا فجّا، وقد يعلو على أعراف النزاهة، وبديهيات التعامل، فيقر الخبث دينا والنذالة مذهبا عن كامل اقتناع، وقد يطيش به تمرده إلى دينه ووجدانه ، فيلحد أو يرتد أو يتزندق، ذلك لأنه يعتنق الجنون كعقيدة لا تقبل الردة، ويؤمن بالتمرد إلها لا إله سواه، وعليه فهو رسول إبداعه يمضي محموما ليكسر أصنام القوالب مهما كانت، وحتى لو كانت مبادئا أو قيما لا تقبل التجاوز..
-
فاطمة بولعناناليوم حرف وغدا حتف
التعليقات
عانو كثيرا، وهي بالأساس ضريبة التمرد على العادة و الخروج عن المألوف
ولكن يظهر لي ان الكاتب أتى بالشيء و نقيضه ففي الجزء الاول أظهر اللا علاقة بين الكفاءة ـوالأخلاق و في التالي أقر أن للإبداع ضريبة و ضريبته التمرد او لنقل الانطوائية و العزلة الفكرية المجتمعية ـوالأخلاقية. فهنا بين وجود علاقة سببية ترتبط بالوجود بين الكفاءة ـوالأخلاق. فحتى إن وجد هكذا علاقة فهي تبقى غير ملزمة و الدليل أنه حتى إن وجد مبدع خبيث خادش للحياء بذيء فهناك مبدعون عظماء كبن سينا أو الخوارزمي أو غيرهم، فرغم تطور مفاهيمهم عن عصرهم إلا انهم حاولو تغيير مجتمعهم برباط الأخلاق و تأطير الدين.