عن الإجترار مثلا ..
نشر في 28 غشت 2016 وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .
يوما ما ضحكتُ كثيرا و مدرسة العلوم الطبيعيّة تُحدثنا عن الإجترار بدا الأمر مُثيرا ..
أذكر يومها أني نعثّ البقرة بالغبيّة .. ضحك كل من بالقسم إلا أستاذتي .. لم يبدُ أنَّها كانت سعيدة بالأمر .. أخبرتني أن للبقرة أسبابها بالتأكيد ..
غيّرتِ الموضوع و ظللت لوقت طويل أتسائَل .. تُرى ما السّبب المنطقي الوضيع الذي يجعلنا نجترّ شيئا انتهت صلاحيته بداخِلنا ..
أنهيت دراستي الثانوية عندها وتخرّجت لجامعة الحياة و أدركت بالأخير أن الإنسان كائن مجترّ أيضا .. الفرق فقط أنّه يجترّ حفنة من الأفكار و المواقف بجمجمته و الحيوان يجترّ أعشاباً و كومة أشياء أخرى بمعدته ..
الأمر برمّته عملية تخزين فطرية .. يستفيد منها الحيوان و يعاني من تداعياتها الإنسان
فالإنسان بطبعه يجيد اجترار الماضي أكثر مما يمنح حيّزا معقولا لحاضره .. فتراه يتحسّر ما امتصّه منه الزّمن أو يحنُّ لأيام طفولته حين لم يكن عليه سوى أن يلعب و يأكل و يرفع ضغط أمه .. بل و حتى و هو يتأمّل النجوم بالسماء يكون بالحقيقة يتأمّل جُزءً من الماضي البعيد
الإجترار السالب هدر للطاقة بداخل الإنسان فهو لا يعدو أن يكون مُجرّد شحنات معقدة تفسّر حجم الأوجه الباهتة التي قد تصادفها بالرصيف يوميا و التي قد تكون أنت نفسك أحدها ..
و لو كنّا نتقن فنّ الإجترار .. لكان الأولى أن نجترّ تاريخنا حتى نقي أنفسنا مغبّة السقوط في نفس الحفرة ..
فالتاريخ لا يعيد نفسه من تلقاء نفسه ما دام الكائن العربي ملتزما بطقوس العمى التّاريخي .. و هنا حقّ لي أن أقتبس من ماركس الحكمة الوحيدة الحلال من بين كل أفكاره البالية .. وهي أنّ التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة !
و بغضّ النظر عن أسباب نزول هذه الجملة التي كانت تخدم بالأساس مصالح المرحلة الإنتقالية من الإشتراكية للشيوعية .. و بصرف النظر عن العبثية التي أهداها ماركس للتاريخ .. فإنني أشهد أن جملته تحمل من الحقيقة أكثر مِمّا تحمله اللغة من معنى ..
فهاهي صحيفة نيويورك تايمز الأمريكيّة تعلن للملأ إمكانية تغيير الخارطة السياسية للشرق الأوسط في كل من سوريا و العراق و ليبيا و اليمن ..
و هاهو التّاريخ من جديد يعيدُ مأساة اتفاقية سايكس بيكو أو ما يعرف بتفريق تركة الرجل المريض التي أجرتها دول الوفاق أثناء الحرب العالمية الأولى سِرّاً و بناء على أسس استعمارية بحثة ..
و الآن تعاد مسرحية تقسيم الشرق الأوسط أو ما سأُسمّيه بتفريق تركة الرجل الميِّت سريرياً .. علناً و بناء على اعتبارات طائفية و دينية هذه المرّة يضمن شرعية التدخّل كملاكٍ عارٍ من صفات الملائكة ..
و رغم أن نيوتن لا يغريني للإبحار في الفيزياء و الرياضيات _و هذا بالتأكيد راجع لخلايا دماغي الرمادية المتواضعة _ فإنّني الآن أجدني مرغمة على الإعتراف أن نيوتن استطاع أن يختزل الكثير مما يمكن أن أنزفه على حالنا هنا حين قال .. أنّ لكلّ فعل ردّ فعل مساو له في المقدار ومضادّ له في الإتجاه ..
فالتاريخ كما سبق و قلت لصديقة لي قبل أيام .. لا يُقتل و لا يذاب في حمض الهيدروفلوريك .. هو ينتقل في حمضنآ النووي جيلا عن جيل .. لأنّه شيء يصعب اجتثاثه بأعظم آلات الحفر الحديثة و من يريد تكذيبه فل يُقنع نفسه أوّلا ..
مأساتنا أننا لا نكذّبه .. نحن نتجاهله و حسب .. كما تتجاهل البلدية إصلاح الإسفلت و الحفر !!
-
السعدية بن التيس ( صحيفتك فملأها بما شئت )علمية التخصص .. أدبية الشغف !