رُبما تبدو كلماتي هذه المرة متناثرة وغير متناسقة , يُمكنني أن أبرر هذا بأنّ ما ستقرأونه الآن هو خلاصة تسعة عشر عامًا وأخصّ منهم الستة أشهر الأخيرة .. أزعم دائمًا أن الفُصحى تمثل بالنسبة إليّ طوق النجاة الأول ! دائمًا ما ألتجئُ إليها حين تضيق عليّ اللغاتُ بما رحبت , لكنها اليوم ستكون بسيطة , كأبسط ما تكون البساطة لا سجع ولا تكلّف ! لا أدري تحديدًا ما السبب الأقوى لربما تضارب الأفكار وتعقّدها بذهني يجعل من الصعب أن تتعقد اللغة أيضا !ربما كلما ازداد صدق الكلمات قل التكلّف فيها ! لا أدري
(1)
دمعت عيناها وهي تقول " رحمه الله وأسكنه فسيح جنّاته , ما أجبرني قط على أن أذهب لمكان لا أحبه أو أن أزور شخصًا لا أحبه .لن أنسى له ذلك ما حييت , كان رفيقًا ! كان مُستوصٍ بيّ خيرًا "
(2)
برغم الخلايا السرطانية التي تنهش فيها , برغم الأيام التي تمضي دون أن تضع قطرة ماء في جوفها , برغم الليالي اللي تعدها وهي تقول لنا " هي الليلة " فتمرُّ الليله ولا تكون هي هي ! .. برغم خوفها عليهم من بعدها , برغم شجارها الدائم وهي الهادئة الوديعة , وبرغم الكفن الذي أرسلت في شرائه و الموتِ الذي أضحى جليسها الوحيد ... برغم كل هذه الأشياء , ضحكت ! نعم ضحكت وهي تحكي لنا
" لا تغرنّكم كل تلك المُمتلكات والأموال الطائلة , حين تزوجته لم (نكن) نملك شيئًا ... لازلت إلى الآن أضحكُ حين أتذكر فرحتنا حين اشترينا الثلاجة بعد عام من زواجنا , أنتم محرمون من هكذا متعه , أن تضعوا لبنة بيتكم بأنفسكم . وتصنعوا أعشاشكم قشة قشة فتكون _برغم بساطتها _ أغلى عليكم من قصور الدنيا " "أموت اليوم قريرة العين , راضية عن الله وأسأله الرضا والجنة .. أمرّ على "يا أيَّتُها النفس المُطمئنة * ارجعي إلى ربِّك راضية مرضية * فادخلي في عبادي وادخلي جنتي" .. أدعوه أن يجعلني راضية مرضية "
(3)
المرة الأولى التي أراه _وهو الصلب القويّ_ يبكي بدمع حار .. كان الوقت قُبيل المغرب بدقائق .. حينما ارتجف صوته وهو يردد الأذكار , رفعتُ عيني لأرى وجهًا مُخضّبًا بالدموع , وجهٌ ما اعتدتُ أن أراه هكذا أبدًا ! كان يدعو "اللهم اشفها وعافها لأولادها ولي .. اللهم خفف عنها .. اللهم احفظها بحفظك " ويبكي !! وما يُدريك ما يُبكي الرجال ! وأي الرجال كان !! .. استغربتُ كثيرًا فقد كان صلبًا حين غادرته لغرفة العمليات , لكن لم يلبث أن انهار بعد لحظات .. * الصورة المرفقة مع النوت ليده حينما كان يُدفئ بها يدها الباردة من تأثير المُخدر على عضلات جسمها
(4)
تقولُ أمي دائمًا أنّنا من نكتب قصصنا بأنفسنا , أعني أن الذين يخرجون بفكرهم من الصندوق لا يرضون أبدًا بمن هم في
داخله ! .. تأكّد لدي هذا المفهوم حينما التقيتُ بهما مُصادفةً . وهو الشاب المُصوّر الاحترافيّ , وهي الطبّاخة المُتفانيه ! .. كافح لأجلها وأقنع والدها الذي كان يرى مهنته "متأكلش عيش" وتزوجا .. وفتحت هي مقهى ومحب حلويات صغير و إبداعي ..يساعدها هو بتصويره في الدعاية للمقهى . وينتظران وليدهما قريبًا , إنْ كان لي أن أصفهما بكلمة واحدة لربما اخترت الجنون" ! تلك النكهة التي لابد من على طبق الحياة لتغطي مرارة طعمها !
(5)
كانت تلك المقالة دونَا عن غيرها كأسوأ ما يكون _ لفظًا ومعنى _ لكن برغم ذلك ستظل المُحببة إليها ! ربما بسبب السطر الأخير الذي فيه بوحٌ على استحياء وتردد , وفيه بصيص ضوء يتسلل من انفراجة الصخرة وتزحزحها عن ذلك القلب الذي كاد ينسى شكل الضوء ! حين أراد أن يوضح مفهومه عن الأُلفة , قطع كُل أشواط الحياة دُفعة واحدة , وتخطاها إلى ذكر الموت يزحف إلى أحدهما الذي يذكر إلفه في ليلة باردة يحتاج فيها إليه ليُدفّء أطراف أصابعه ولو بحديثه !
يقول البرغوثي " وفي ارتباك المحبة ع المحبة دليل " .. أظنه على حق ! ف "إيلاف" الأولى و هذه مرتبكتان تمامًا ومتناقضتان في ظاهرهما .. لكنّهما متكاملتان بشكلٍ أو بآخر , وكأنه كان لابد لكل هذه الأشياء أن تحدث وأن يجعلني الله بشكل ما جزءًا منها لحكمة يعملها ! كان لابد لهذا أن يحدث :)
وأنا ممتنة تمامًا لكل هؤلاء الذي علموني ببساطتهم وصدقهم أن "الحب كالإيمان .. ما وقر في القلب وصدقه الفعل " .. يعتريني الخجل وأنا أكتب عنهم ! ومن أنا في بحر جمالهم لكنّ حقهم عليّ ألا أترك حكاياهم طي الكتمان
ولا أجد أفضل من أن أدعو بدعوة العزّ بن عبدالسلام : " اللهم إنك تعلم أن في قلب هذا العبد الصالح مُضغة تهفو إلى إلفها في غير معصية لك , اللهم فاجمع شمله بأمتك التي يحبها على سنة نبيك صلى الله عليه وسلم "
-
زهرة الوهيديأكتب... لأنني أحب الكتابة وأحب الكتابة... لأن الحياة تستوقفني، تُدهشني، تشغلني، تستوعبني، تُربكني وتُخيفني وأنا مولعةٌ بهـا” رضـوى عاشور :)