مغامرات الدراجة الحمراء - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

مغامرات الدراجة الحمراء

عن قيادة الدراجة في دمشق

  نشر في 22 فبراير 2015  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

تأخذ نفساً عميقاً و تشعر بالدم يتصاعد إلى رأسك و أنت تقترب من ذلك الانسداد العظيم أمامك، تتباطأ سرعة السيارة التي تركبها حتى تتوقف. الطريق مسدود و ازدحام سير خانق يقف بينك وبين الوصول إلى وجهتك، انسداد شكله حاجز ما أو طريق مغلق أو حادث من حوادث سوريا المؤلمة. مثل كل مرة سترغم على الانتظار هنا لفترة قد تتراوح ما بين دقائق و عدة ساعات، و سَتُحرق هذه الفترة من يومك و أنت عالق في مكانك تنتظر الفرج.

كل من عاش في سوريا في السنوات الثلاثة الأخيرة يعرف تماماً ما أتحدث عنه، لقد أصبحت هذه الحالة معتادة لدرجة أن الناس ابتكرت وسائل لاستثمار الأوقات التي تضيع من يومها في الانتظار، تستطيع أن ترى سيدات في وسائل النقل العامة (عم يطبقوا الطبخة) يحضرن مكونات الطبخة التي يردن اعدادها لعائلاتهن عند وصولهن أخيراً إلى المنزل، وترى الطلاب يفتحون كتبهم و يغرقون في الدراسة، الأمهات يساعدن أطفالهن في الوظائف المدرسية و العديد من الوسائل و الحيل الأخرى التي يلجأ إليها الناس لشغل أوقاتهم و للحفاظ على عقولهم.

لكن هذا لم ينفع معي فهذه الحالة من الانسداد و كوني لا أمتلك حلأ للخروج منها.. كانت تصيبني بالجنون، أضف إلى ذلك التكاليف الباهظة للمواصلات التي كنت أدفعها كل شهر،    و الأخطار التي قد تترقبني على الطريق  ( الهاون و الانفجارت و الرصاص الطائر .. إلخ) كل هذا دفعني للوصول إلى مرحلة أصبح فيها الخروج من المنزل و الذهاب إلى العمل بلا جدوى، أصبح من الضروري أما أن أجد حلاً أو أقرر البقاء في المنزل إلى أمد غير معلوم.

الحل

ماذا لو بدأنا بركوب الدراجات و استخدامها كوسيلة مواصلات بديلة؟ هذا ما كان يدور النقاش حوله في جلسة مع صديقتي جمانة و رزان أواخر العام 2012، كان هذا النقاش يستخرج من تحت الركام فكرة كانت قد طمرت منذ سنين عديدة، فبالرغم من أن الدراجات هي وسيلة موصلات معتادة في سوريا إلا أن استخدامها كان محصورا على الرجال، لم يسبق للنساء أن استخدمن الدراجة للتنقل بشكل يومي من قبل في معظم ارجاء سوريا، فالدراجة ليس لها مكان ضمن العادات الاجتماعية السائدة، و لا تدخل في قاموس الاشياء التي يرضى المجتمع أن تمارسها المرأة. كانت الفكرة بالنسبة لنا جذابة و مثيرة للحماس، و بدت و كأنها الحل المنشود لمشكلتنا العويصة.

الدراجة الحمراء

17 تشرين الثاني 2013

هذا اليوم هو عيد ميلاد دراجتي الحمراء، اليوم الذي اشتريت فيه دراجتي الأولى، في ذلك النهار ذهبت إلى منطقة العمارة في دمشق القديمة التي تحتوي على سوق الدراجات المستعملة، صحبني في هذه الرحلة صديقتي جمانة ورزان و صديقنا صالح خبير الدراجات في شلتنا، في سيارة الأجرة إلى سوق العمارة سألنا السائق عن رأيه بقيادة الفتيات للدراجات كوسيلة مواصلات فقال: “في هذه الظروف الصعبة ستكون حلا مثالياً”. بعد عدة جولات في السوق و بعد اختبارات المتانة و السلامة و مفاصلة .حامية على السعر أصبحت الدراجة الحمراء ملكي.

مشكلة بسيطة

بعد أن أصبح لدي دراجتي الخاصة شعرت أن العقبات قد تذللت من أمام طموحي و أحلامي، إلا أن مشكلة بسيطة كان تقف في طريقي، فأنا للأسف لم أكن اعرف كيف أقود الدراجة، لم أحظى أثناء طفولتي بفرصة لكي أتعلم قيادة الدراجة بسبب ظروف نشأتي في السعودية، لكن صديقتي الرائعتين أخذتا على عاتقهما المهمة المتعبة بتعلمي وتدربي.

جلستا التدريب الأوليتان كانتا صعبتان للغاية، كنت أكافح لكي أتوازن على الدراجة دون جدوى و كنت خائفة جدا من الوقوع ، و في موعد الجلسة الثالثة اعتذرت صديقتي عن الحضور و طلبتا مني أن نؤجل الموعد ليوم آخر بسبب ظرف طارئ، و ختمت صديقتي جمانة مكالمة الهاتف بتحذير واضح لي:” إياك أن تتدربي على قيادة الدراجة بمفردك… ستعرضين نفسك للأذى و الخطر.. أنت لا تزالين مبتدئة"

لكني لم استمع لنصيحتها، و لم تمر عشر دقائق إلا و قد كنت في الساحة الصغيرة المستخدمة لصف السيارات أمام منزلي، أتدرب على الدراجة و أقع مراراً و تكراراً ثم أنهض من جديد و أتدرب. بعد مرور فترة بدأت الأمور بالتحسن و استطعت أن اتوازن على الدراجة و أقطع عدة أمتار بدون أن اقع .. و لم ألبث إلا و قد كنت أقطع الطريق طوال الشارع من دون أن يختل توازني، كدت أن أهتف بفرح في الطريق: أجل!! لقد فعلتها!!.. لقد نجحت! إلا أنني في تلك الحظة تذكرت اني لا أمتلك أدنى فكرة كيف سأوقف هذا الاختراع، و لسبب ما لم أرى الفرامل الواضحة الموجودة أعلى قبضات الدراجة، كانت الثواني التي سبقت ارتطامي بسيارة واقفة تكاد أن تمتد إلى اللانهاية.

فتحت عيني و كنت على الأرض ، الدنيا تدور بي و لم أستطع الحراك للحظة ، كنت في ألم شديد و كان الدم ينزف من جرح كبير في ذقني و يملأ حجابي و ثيابي، فجأة انتبه لي رجل كبير بالسن و جاء لمساعدتي، ساعدني في الوصول للبناء الذي أسكنه، صعدت إلى المنزل و أنا أرتجف، بعدها صحبتني أمي للمشفى و كانت ثمار هذا اليوم المغامرتي: ركبة مرضوضة ، جرح كبير في الذقن و سبعة قطب جراحية.

الخطوة التالية

بعد أن تحسنت مهاراتي في قيادة الدراجة، رأينا أن الخطوة التالية تكمن في جعل الناس أكثر اعتيادا على رؤية الفتيات و هن يقدن الدراجات. و لتحقيق ذلك قررنا ركوب الدراجات في نطاق واسع، و أن نبدأ بشارع تلو الآخر حتى نغطي قدر الامكان من شوارع و أحياء دمشق، كانت ردة الفعل التي تلقينها من الناس مفاجئة للغاية.

 بنات على البسكليت!

ردة الفعل الأولى التي تلقيناها من الناس تكاد أن تكون موحدة، فالناس ببساطة كانت تقول بدهشة: ” بنات على البسكليت!”، بعد فترة تغيرت ردة الفعل و أصبحت ايجابية أكثر، فكثيرا ما كنا نسمع عبارات التشجيع من المارة في الطريق : برافو عليكم !، صبايا شجاعات ، أحسن حل و الله !، عيشوا شبابكم، لم نتوقع أن تكون ردة الفعل رائعة لهذه الدرجة، و لن أنسى تلك المرة التي أوقفتنا بها مجموعة من النساء المحافظات جدا، آخر من سيخطر ببالنا أنهن قد يرغبن بقيادة الدراجة، قلن لنا في ذلك اليوم (درجولنا شغلة البسكليتات) اجعلن قيادة المرأة للدراجة أمرأ رائجاَ، طوال عمرنا حلمنا بقيادة الدراجات بدلاً عن المواصلات، و لن نستطيع القيام بهذا حتى يصبح الأمر رائجاً بما فيه الكفاية.

لقد غمرتنا ايجابية الناس اتجاه فكرة قيادة الدراجات لدرجة حدت بشكل كبير من أثر ردود الفعل السلبية و المؤذية ، فأمام كل ردة فعل مؤذية أو سلبية كنا نتلقى مئات من الردود الايجابية و عبارات التشجيع و الدعم.

الجانب القبيح

لعنة الله عليك! هذا ما صرخ بي أحد الرجال و أنا أطير أمامه على دراجتي الحمراء، بعض الناس كانوا يصرخون بي بعبارات مثل: بدك تخربي الشباب و بسبب أمثالك سوريا الآن ترزح تحت غضب الله . هذه كانت بعض من ردود الفعل السلبية التي كنا نتلقاها من الناس.

بعض منها تحولت إلى ردود فعل خطيرة، فقد تعرضت ثلاث مرات لمحاولات دهس بالسيارة بشكل متعمد، لم أعرف إن كانت هذه المحاولات بغرض اخافتي أم أن من وراء عجلة السيارة أراد أذيتي حقاً.

بعض من ردود الفعل كانت عنصرية و ضد المرأة، فمرة سمعت مجموعة من الرجال يتناقشون نظرية مفادها أن حوادث السير ستزداد الآن بعد أن أصبحت ( النسوان) النساء على الدرجات. و في أحد الأيام و أثناء مروري أمام محل لبيع الفلافل يقع على طريقي اليومي للعمل، صرخ بي صاحب المحل قائلا : استمري في قيادة الدراجة .. عسى أن تصبحي نحيلة يوماً ما !. و في حادثة اخرى كنت عند محل لتصليح الدراجات لتبديل دولاب دراجتي، سألت مصلح الدراجات عن رأيه إن كان من الأفضل أن أسجل دراجتي لدى البلدية و أضع عليها لوحة ملكية فقال: لا تسجليها و لا بطيخ، إنت (امرأة ما حدا بيعتب عليك) أنت امرأة لن يعتب عليك أحد.

كما كان لبعض من ردود الفعل هذه جانب من الطرافة، فمثلاً كنت أتعرض بشكل مستمر لظاهرة غريبة، حيث يبطأ الرجال الذين يقودن الدراجات النارية أو السيارات سرعتهم إلى سرعة دراجتي، لكي يسألونني إن كنت أرغب بالسباق معهم! تكرر هذا الأمر لدرجة فكرت في وضع لوحة على الدراجة تقول: أخي السائق: و الله العظيم ما بدي سابق.

الاعلام الاجتماعي

خلال الأشهر القليلة الماضية حاولنا أن نشارك تجربتنا في استخدام الدراجة كوسيلة مواصلات على الاعلام الاجتماعي. كانت معظم الردود ايجابية إلا أن بعض الناس تفاعلوا مع الموضوع بشكل سلبي للغاية، و كتبوا منتقدين و متهمين الفتيات اللواتي يقدن الدراجات شتى الاتهامات، من قلة الحياء و ضعف الأخلاق إلى امتلك خطة لتدمير المجتمع، لكننا لم نكن مضطرين للدفاع عن أنفسنا و فكرتنا أمام هذا الهجوم، فقد انبرى الناس للدفاع عن الفكرة و تبنوا نشرها و اخماد الأصوات السلبية. كان هذا التطور الايجابي سبباً لأن نشعر بأننا قد حققنا انجازاً ما.

مثل السحر

كان للدراجة الحمراء اثر يشبه السحر على حياتي، لا أستطيع حقاً أن أحصي عدد المرات التي كنت أمر فيها بيوم في غاية السوء وكانت تلك النزهة البسيطة على دراجتي ما قلب الموازين و جعلني بحال أفضل. دراجتي الحمراء خلصتني من الكثير من الطاقة السلبية و حولتها ببساطة إلى متعة و تفاؤل خالص. لقد وفرت لي الوقت و المال و تركت أثرا ايجابيا على صحتي. عشت مغامرات رائعة و حظيت بالكثير من الدعم من أهلي و أصدقائي و من الناس بشكل عام. اليوم تستطيع أن ترى بعض الفتيات و النساء يقدن الدراجات في شوارع دمشق، لم يصل عدد اللواتي أخذن هذه الخطوة إلى كم يجعل قيادة المرأة للدراجات أمراً دارجاً و واسع الانتشار في المجتمع، إلا أن تغيرا إيجابيا ما قد حدث بالفعل.

كلمات أخيرة

بالنسبة لنا لم نخض غمار هذه المغامرات لتحدي أو مواجهة المجتمع. لكن ببساطة كانت خطوة تعبر عن تمسكنا بالحياة في ظل هذه الظروف الصعبة، استطعنا أن نصنع حلاً لحالة الاختناق و الانسداد التي كانت تواجهنا يومياً و عملنا بجد حتى أصبح هذا الحل ممكناً.

لا أعتقد أننا كنا الفتيات الوحيدات اللواتي فكرن بهذا الحل أو جربن قيادة الدراجات بدمشق و عشن مغامراتهن الخاصة على الدراجات، إلا أنني أظن أننا من القليلات جدا اللواتي مارسن قيادة الدراجات بشكل يومي ومستمر

علمتني مغامرات الدراجة الحمراء أن الصورة التي تَرسُم مجتمعنا على أنه مجتمع متخلف رجعي لا يقبل التغير و الأفكار الجديدة ليست حقيقية حقاً، و لهذا ربما يجب أن نتمسك بقوة بما يتملك مجتمعنا من انفتاح و ايجابية و نحن أمام هذا السيل الاعلامي الجارف الذي يتحدث فقط عن التطرف و القهر و الجانب المظلم من حكايتنا السورية .. هذا كان الدرس الأول.

أما الدرس الثاني فهو: لا تقف مستسلماً و أَوجد الحل بنفسك مهما كانت الصعاب.




ملاحظة:

هذه التدوينة توثق الفترة ما بين شهر 1- 2013 و شهر 8-2014 .من اليوم الذي بدأت فيه مغامرة الدراجة الحمراء الى اليوم الذي سافرت و تركت دمشق لغرض دراسة الماجستير

رابط التدوينة على مدونتي: http://goo.gl/lziF3S


  • 12

  • مزنة النائب
    أنا حالمة من سوريا، أحب قيادة الدراجة، صناعة الأفلام و كتابة القصص.
   نشر في 22 فبراير 2015  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

عندما تختلط المأساة مع فن الروالية، مقال رائع
0
شكرا على مشاركة المغامرة
0
Mahassine منذ 9 سنة
مزيدا من العطاء ..
0

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا