يقتربون ويتصافحون ولا مفر أمامهم من سؤالهم المعتاد , الذي أصبح مُبتدأ الأحاديث كلها , لا حديث يبدأ أو يجرؤ أن ينتهي دونه ..
كيف حالك ؟ ..
ورغم بساطته إلا أنه السؤال الأصعب على الإطلاق ! , ورغم وضوح إجابته , إلا أنها إجابة مُزيفة لا تُبرهن على حقيقة المُجيب بشئ ! , ولكنها ظلت ثابتة لدهور , لم تتغير ولم نجد سواها للرد , ودون تفكير عميق أو فلسفة زائدة أخذت حروف الإجابة تتكاتف بمرونة شديدة , وكأن الحروف قد نشأ بينها صداقة قوية , تتهافت الحروف على بعضها البعض وتخرج لنا بجملة أقل بساطة من سؤال السائل نفسه ! ..
كل شئ على مايرام , ولكنها ليست صادقة , هي مجرد إجابة وليست بحقيقة لا تقبل الشك ..
كل شئ يسير على مايرام , أنا بخير ..
كلها كلمات مزيفة , تُلاحقها إبتسامة لا تقل عنها زيف , تقع على مسامع السائل كأنها لم تقع من الأساس , فهو لا ينتظرها , لقد سمعها بما فيه الكفاية حتى أنه تيقن منها قبل أن يسأل سؤاله المعتاد ! , فلمَ ينتظر أذن أن يستمع لما عاهدت أذنه على سماعه مراراً ؟! , هل إختلفت الحروف هذه المرة ؟ , هل خرجت له إجابة مختلفة قد تلفت إنتباه إهتمامه ؟! , فلمَ ينتظرها ؟! , ولمَ ينتظر المُجيب أن يجد رد فعل مختلف هذه المرة ؟! , فهل أجابه إجابة تحوي معلومة جديدة ؟! , لمَ ينظر إليه كأنه يشحذ منه بعضاً من العون لما هو عليه ؟! , لما هو عليه حقاً , وليس ما يحاول إظهاره لمن حوله , مجرد إبتسامات على ملامح بغضت سيناريو يُعاد كل لحظة , أرادت أن تتحرر من تلك القيود وإظهار ملامحها الأصلية ولكن كيف ذلك ومالكها لا يقوى على مواجهة ذاته لا من مواجهة البشر حوله وفقط ! , كأن الخوف قد إستقر به من تلك اللحظة التي يخرج بها عن صمته ويُقر أنه " ليس بخير " ! ..
فحتى الخوف لا يقوى على مواجهة سببه الأساسي ! , هل هو خائف من نتيجة البوح ؟ , ألن يجد من يتفهم عمق ألمه ؟ , فيظل يقص أسباب عذابه على البشر كأنها قصص ما قبل النوم , ولكنه يجد في النهاية أن من حوله قد تجاوزوا سن الطفولة هذا الذي يسمح لهم بالإستمتاع لحكايات لا معنى لها ! , فينزوي من جديد وينهش به الندم على ما اقدم عليه وكان قد خُيل له أنه طوق النجاة , شكل من أشكال الخوف المنطقي لديه فما الداعي أذن من البوح ؟! , في النهاية النتيجة واحدة , عزلة جديدة والعجيب أنه من تسبب في ذلك بنفسه ! , فكيف له أن يهرب من عزلة أحدثتها إضطرابات مؤلمة داخله بعزلة أخرى أكثر إيلاماً والسبب .. أنه أراد ان يُظهر وجه حالته الحقيقي !
مسرحية هزلية استمر هو فيها بطلها الأوحد والجمهور لا يمل منها , وحينما أراد أن ينسحب منها اتهمه الجمهور بالنفاق .. فاستمرت المسرحية واستمر الجمهور في الإستمتاع بها .. أما البطل ظل يُحارب ما يعتريه بصمت خانق دون أن يُظهر إلا ما يطلبه المُتفرجين على تلك المهزلة ..
وبعد أن نال السائل جوابه , ألقاه جانباً كأنه لم يود أن يسأله ! , وأخذ يُثرثر في تفاهات القول كالعادة , أما المُجيب , ظل غارقاً في إجابته التي حُكم عليها بالكبت للأبد " لا , أنا لستُ بخير " ..
فهل تملك من الشجاعة القدر الكافي لتتخلص من تلك الحالة التي لن تجد منها سوى الضعف ؟ , لن تخرج منها إلا بقايا نفس بشرية قاومت حتى هلكت , ولكنها وبرغم ما تُعانيه من هلاك تُظهر أنها أقوى مما يجب أن يكون , هكذا تود البشرية أن تراه , نظرة صلبة مُفعمة بالحياة ولكن إن دققت النظر بها تجدها قد إنطفأ نورها , والحياة داخلها تحولت جحيم , نيران لا تتوقف عن الإشتعال , ومن ينحرق بها هو أنت ..
فلتُظهر بعضاً من الشجاعة الآن ولتُعلنها , فإن لم تجد من يتفهمك فلا تحزن , ولا تنتفض ولا تثور , فبهذا البوح يكفيك أنك قد نجحت في مواجهة ما تشعر به أمام الحياة وليس أن تهرب منه .. فلا تخف أن تخسر من حولك لما ستُعلنه من كآبة أو سلبية كما تظن , فحينما تخسر ذاتك فلا خسارة بعدها ..