في الغُربة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

في الغُربة

في الغربة

  نشر في 27 ديسمبر 2017  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

تبحثُ عن عالمٍ مجازي يكسرُ روتيناً اعتدتْ عليه، تحاولَ ترويضَ ما تبقى من عاداتٍ كبُرتْ معك في بلدٍ تركَّ فيكَ أنقاض ضحكةٍ، المكانُ ليس مصيدةً ولا الزمان سجناً، جميعُ ما يمرَ بهما هو نبضٌ جديد يُريدُ منكَ أن تطأ أقدام الحاضر دون خوفٍ من غربةِ الروح.

في الشوارع، في الحارات عبقٌ يشبهَ عبقاً كان معك في حيفا، بحيراتٌ وبحارٌ تزدهر بداخلك نسماتها كأمواج بحر غزةٍ الثائرة في عمق روحك، تشمَ عطرَ البرتقالِ كأنك تسكن يافا اليوم، تنتفضُ ذاكرتك لتٌدخلكَ في ذاكرةٍ جديدةٍ مُعلقةً على تلافيفها لوحاتٍ فنيةٍ من روائع ذكريات الماضي قبل الغربة.

يأخذك الحنين لأيامٍ رحلتْ ولم يبقَ منها سوى صورة حلمٍ يساورك كلما اشتقت لما كان، الحنين لا يُولدُ من وجعٍ، وحدها الروح صاحبة القرار لاختزال الحنين إلى أحرفٍ وكلماتٍ يُطرب العقل عن قراءة معانيها، هناك في الغربة تكون أحود للحنين، ليكون غداء القلب حيث تشعر أنك في منفى بوحدةٍ تُرافقك طيلة رحلة سفرك، تُطل من نافذتك لتروي عينيك بسرابِ صورةٍ تُغني لوحدتك أملاً في تنفس رائحة الأُنس، تشمَ الزيزفون على جبال لبنان، تنبهر بشهامة أبو الهول في حراسته لأهرام مجد مصر، تتوق لحدائق بابل المُعلقة تنتظر أن ترتوي أملاً و عشقاً بلونها الأخضر، و على ضفة النهر الشرقية تركب سفينة الآمال وصولاً بكَ إلى أريحا، تنام برداء طينة بحرها ليطيب لجسدك عشق الحرية.

يكبرُ التائه منك فيك، لا الظل ظلك ولا خيال اليوم خيالك، تعودُ عُنوة إلى مكان الغربة، تحاول مرة أخرى ترويض كل ما فيك لفيك، تُرغمه على تفوه كلمات جديدة لم تعهدها في منفاك الأول، الذي ترك الأحزان تُطفئ شمعة أملك بلا حول لك و لا قوة، فيترك حبل الوطن بعيداً عن رقبتك ليحررك من سجنٍ رماك فيه سوء ظنهم بك، و هو على يقين بأن حبك له يسكن فيك يوم تركته إلى منفى الغربة.

إنه الوطن؛ يعلمُ جيداً أن غربة الروح ستطال كيانك في غربة المكان، لكنه سكت على مضضٍ ولم يتفوه ببنت شفاه؛ بل وضع لكَ أعذار مرار غربةٍ شعرتها روحك بين أهلك،

الآن؛ أنت هناك،

والوطن سكنٌ فيك،

تودُ العودة إليه،

تحاور عقلك أن الحياة لن تكون هناك إلا بك؛ لكنه بكل جبروت يصفعك ويرفض الخنوع للشوق، تقرر أن تزرع في كل ركنٍ من قلبك بذرة حبٍ لفتاةٍ لم تعشقها بعد، لأمك التي بكت فراقك قبل أن يبكيك فراقها، لطفلتك التي لا تدري ستأتي إلى الحياة أم لا؟!

تنوي زرع شجرةً زيتونٍ عند زاوية بيتك الصغير، تُؤلمك العاطفة لتصبح هويتك التي لا تُفارقك.

تقول لنفسك: لن أخسر الكثيرَ في الغربة؛ فهي اختلاف وائتلاف، عاداتٌ شتى تتداخل وتتجانس مع بعضها لتصنع أسرة جديدة من عادات تصُلح لكلِ من يمر بها.

أنت من اختار أن يُنفي قلبه إلى عالمٍ آخر، فتمدح الغربةَ وأنت تحتسي قهوتك عند حافة النهر على سمفونية الحب. ترتدي نظارةً بيضاء ترى في غربتك الأمل في تنوير عقلك بفكرٍ جديدٍ يحملَ عادات ثقافية لم تعتدها. تقرر أن تتعلم السباحة في بحر معارفها، فتبحث عمن يأخذ بيدكَ، ممن يرسم لكَ ومعكَ أول خطوات التجديف، فيُهديكَ بِزْةّ البداية لتنطلق وحدك دون أن تهاب التعثر في مطباتِ الاختلاف، تدركَ أنه لا اختلاف في الاختلاف إلا في صورةٍ ظاهرية، بينما تتأصل صورة الإنسانية فيه. الطريقُ أصبح ممهدٌ أمامك لا تضاريس آلام فيه ولا مطبات إخفاق، يتبدد سراب الخوف في طرقات الإصرار، تسافر بأحلامك كالحمام طار إلى مُستقرِ التغيير، اقتربت ساعة المستقبل منكَ، رسمت لك عقاربُها خطواتَ الغد بألوان الحب والسير المُفعم بالنشاط. أنت الآن على بُعد خطوةٍ من تحقيق أحلام والدك في كونك رجلاً فاهماً لقلبه وواعياً بعقله، تكتب له رسالة تحت التراب تُخبره أنك على بداية درب الرجولة وأن توقعاته منكَ كانت في محلها. تكتب له كلمات الحنين لأيام كان فيها معك، قبل أن يُغادرك إلى عالم الغيب. تتبسم بدمعة رسمت طرقها على وجهك، وتسير في دربك بخطى واثقة من جمال الغربة وإن كان فيها وجع الوحدة. 


  • 1

   نشر في 27 ديسمبر 2017  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا