حدثتني نفسي أن أقيد للذكرى هذه اللوحة الفنية الفريدة التي تبدعها يد الأقدار حين يجتمع الزمان الفريد في المكان الفريد، فقد استقبلت مدينة اسطنبول قبل أيام شهر أيلول من العام 2023 ميلادية بأمطار غزيرة فاضت على إثرها أجزاء من المدينة، وقد كانت تشكو قبل ذلك الجفاف، والحكومة تحذر من انخفاض منسوب السدود ونقصها عن الحد الطبيعي لدرجة غير مألوفة، هكذا حكمة إلهية بالغة، تستميل القلوب النافرة، وتلجم الأهواء الفاسدة من يأس وقنوط وسوء ظن، وإن المرء قد تنعكس خبايا نفسه على هذا الكون، فإن خبثت نفسه ساءها كل ظاهر، وإن طابت طاب لها كل قضاء، واتسع لها الفضاء وتساوى لديها المنع والعطاء، وإنه ليجد في الطبيعة صورة نفسه وخياله وعواطفه، فكأنها تحاكي أيامه وذكرياته وآماله، وهذه الرياح والسحائب والأمطار (الأيلولية) مليئة بعبق الذكريات، وكل نسمة باردة تستفز النفس لتكتبها، ولكن أنى لي هذا وأنا أستعيد بها ذكريات كل قطرة مطر وكل نسمة كانت قد لفحت وجهي في يوم من الأيام، وكأن كل قطرة وليدة ما قبلها، مثلما أن اليوم هو وليد لأيام خلت مثله وغدت من الذكريات، وكأنها تلامس شيئا في جيناتي يذكرها بأنه شهر ميلادي، على أنني لا أبالي ولا أعبأ بذكرى الميلاد، فأنا أرى كل يوم هو ميلاد جديد، وحياة جديدة، وفرصة لتخزين ذكريات أجمل وآمال أكبر، ولكنني أحاول أخذ قبضة من رائحة أيلول لأكتب منها بضع كلمات، ولو كنت أملك أن أكتبه كما أتصوره لكتبت شيئا جميلا، لكن اللغة أضيق من شعورنا وتصوراتنا، فالمنظر البهي يروق لنا نصفه بأنه جميل، والنغمة العذبة بأنها جميلة، وطبقا من الطعام مزينا بأنه جميل، والرائحة العطرة الشذية نقول إنها جميلة، وهل الجمال في كل هذا واحد أم أنه جماليات متعددة، فأين اللغة التي تصف وتصور كل جمال من هذا.
غير أنني أملك أن أقول إن أيلول لا يتلبد بالغيوم بل بالأفكار والخواطر والذكريات، ولا تتقلب فيه الفصول من صيف إلى شتاء، بل تتقلب فيه النفس من سبات إلى حياة، ومن شتات إلى استقامة، ومن قيظ في النفس إلى برد في الروح، وقد قيل فصل الخريف ربيع النفس، وقال الشاعر يصف أيلول:
وجاءنا أيلول مستبشراً ... يُثني على الزَّهرِ بآلائه
أما ترى الرقة في جوه ... تناسب الرقَّةَ في مائه.
-
حنان حسن🍀ذاكرةُ البشرِ قصيرة والحرفُ يخلِّد الذكرى🌿