ما كان يدور في عقلي أثناء "سكاشن" التشريح - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

ما كان يدور في عقلي أثناء "سكاشن" التشريح

  نشر في 01 يوليوز 2017 .

على الأغلب فإن من يقرأ هذه الكلمات ربما لا ينتمي إلى فئة الأطباء ، لذلك فليس من المتوقع أنك ستحفز ذاكرتك لتسترجع مثل هذه المشاهد الواردة في هذه الحديث ، ولكنك ربما قد تكون تعايشت معها في حدث طارئ ولكن ليست بنفس ذات الحدة والتكرار الذي يعايشه الأطباء وخصوصاً الطلبة منهم .

في السنة الأولى والثانية ، تعتبر دراسة مادة التشريح شيئاً إجبارياً لابد لجميع الطلبة أن يجتازوه حتى يصبحوا مؤهلين للمرور بما هو أكثر تعقيداً في السنوات المقبلة ، وهذه الدراسة تستوجب المرور على ما يسمى بالمشرحة مرتين أو ثلات مرات إسبوعياً ، الأمر الذي يدفع من يستمع إلى هذا الكلام إلى الشعور بالخوف أو التقزز ، نعم ! لقد أتخذت هذا الموقف مثلك تماماً في زياراتي الأولى وقد تعايشت مع الخوف لرؤية أمامي جثة ليست تماماً كما تصور عقلي أو شَكل من خيالات ، حتى اعتدت الأمر بالشكل الذي جعلني لا أخاف منهم ولا يخافوني بالتأكيد ، أصافحهم في بداية "السيكشن" متعرفة على ملامح الجثة التي سندرس عليها اليوم بخصوص مقرر محدد طبقاً لجدول دراسي مزدحم ، بعد مرور أول ثلاثة أشهر في هذه الكلية ، يعتاد جميع الطلبة التعامل مع الجثث بهدف الفهم والحفظ والتعرف على جسم الإنسان جيداً في محاولة من كل منا أن يهيئ نفسه لكي يصبح طبيباً أو جراحاً ناجحاً في المستقبل .

وفي الأوقات التي تتزامن مع اقتراب الامتحانات العملية الخاصة بهذه المادة ، تشهد المشرحة موسماً مزدحماً فتصبح المكان الأكثر رواجاً على مستوى المبنى الجامعي ، ويتدافع جميع طلاب العام الأول والثاني مقبلين على هذه الجثث كما لو كانوا رفقاؤهم الأقرب على الإطلاق ، ولكن أرجوك لا تتخذ منا موقف الهجوم والإتهام كما لو كنا فاقدي للرحمة أو عديمي الإحساس ، لا يا صديق .. فإننا نفعل هذا بدافع العلم مع الحرص التام والشديد على ألا يتم التمثيل بالجثث أو إنهتاك حرمة الله . قد يظن البعض أن هذا يعتبر انتهاكاً لحرمة الموتى ، ربما لن أقبل أن يحدث هذا لأحد أصدقائي أو معارفي ، ولكن أجد التبرير في نفسي لأننا نحاول قدر الإمكان التجهيز والإستعداد لإحياء النفس فيما بعد وأراها نية صالحة ربما يغفر لنا الله هذا لسلامة النية . كما أننا نسعى للحفاظ على حياة الإنسان الحي الذي أصبح منتهكاً حياً أو ميتاً .

ولكن نحن لسنا بصدد هذا الموضوع الآن ، بينما كان يسعى الجميع للتعلم والمراجعة ، واستجماع أكبر قدر من المعلومات ، اتخذ عقلي وقلبي وجهة عاطفية بحتة أو ربما فكرية ، وربما كنت أفكر بنهايتي المأساوية بعد أن انتهكت حرمة الموتى وربما تخيلت نفسي في مكانهم وأنا أنظر إلى جسدي من فوق سبع سموات بينما يعبث به طلبة الطب الذين قد قست قلوبهم مثلما قسى قلبي على هؤلاء الموتى .

ولكنني أيضاً لم يكن هذا الشاغل الأكبر لذهني في هذه اللحظات ، لقد كنت أفكر في نهاية الإنسان بشكل عام ، ترى هل صاحب هذا الجسد كان وزيراً أو موظفاً عادياً ، وربما أحد الفاسدين الذي قتله صاحبه وألقى به بعيداً عن الأنظار دون أن يواري سوأته لأنه كان على خلاف معه فعثر عليه أحد عمال مشرحتنا المخضرمين وجاء به إلى هنا ، وربما يكون هذا الجسد لإحدى الأمهات اللاتي يموتن في حوادث دون أن يجدهن أولادهن فيبكون عليها وقلوبهم يحرقها الفقد والألم والوداع ، وفي إحدى المرات عثرت على جثة إمرأة كانت تطيل أظافرها بشكل جعلني أظن أن هذا الجسد كان لإحدى السيدات الجميلات اللاتي يتزوجن من رجال أثرياء .

ما أثار عقلي حقاً أننا جميعاً نهايتنا واحدة ، قد يحسن الله خاتمنا وهذا ما نرجوه ونأمله دائماً ، وقد يعاقبنا في هذه الدنيا بذنوبنا فيكفرها عنا بهذه الطريقة المؤسفة ، ولكن الأمر المؤسف حقاً غرور الإنسان ووهمه أنه خالد ، اعتقاد المرء منا أن الإنسان ليس إلا جمالاً وعيون وشعر منسدل أو منكبين عريضين ، والنهاية واحدة لا يكاد المرء يفرق بين جسد وأخر بعد الموت ، جميعناً سواء ، تذبل الملامح ويتجعد الشعر و ينكمش الجلد ويذهب الجمال ، وتصبح مجرد لحماً فوق عظم ، تصبح على صورة لا يستطيع أن يميزها أحد ممن كنت تغضب الله لأجله في الدنيا .

يفنى الجمال والتقوى باقية ، ويصمت الصوت العذب ، ويبلى الجسد الممشوق و تنكمش العضلات القوية المفتولة ، ويذهب كل ما كنت تعبده وأنت لا تدري ، تعبد الجمال و تجري وراء المزيد والمزيد من صورة حسنة فانية .. يا ترى هل إذا رأينا أنفسنا بعد الموت هل نستمر على ما نفعله الآن ؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ .


  • 19

  • نادين عبد الحميد
    ربما لا أتمكن من الكتابة بالشكل الذي أرجوه لكنني على ثقة أن الكتابة تمكنت مني .. فإنني لا أمارسها فعلاً وإنما أتنفسها هواءً هو المعين لي كي أستمر على قيد الحياة ..
   نشر في 01 يوليوز 2017 .

التعليقات

مقال لم أقرأه من قبل و لو أنني شاهدته في أفلام سنيمائية، كل ما شعرت به هو أنني كنت أقرأ مقالك كما و لو أنّني على طاولة المشرحة، ماذا لو كنت في يوم ما جسدا بلا روح تلمسه أياد تريد أن تدرس قطعا لحمية فقط، ولا يعرفون شيئا عني، لا يعرفون كيف عشت و كيف مت.... لا يعرفون كيف كانت دقات قلبي و أنا خائف و أنا سعيد، و انا غاضب، و أنا أبكي، كيف يرون عقلي و لا يعرفون شيئا عن أفكاري، كيف يرون عيناي، و لا يعلمون ماذا رأت عيناي و ماذا سمعت أذناي، و كيف كنت أمشي بقدماي و ألمس الأشياء بيداي..كل ما شعرت به هو شيء من القوة و الضعف في آن واحد. و دار في خاطري أن أكتب مقالا أوضّح فيه فكرتي أكثر... أشكرك على مقالك...
2
محمود بشارة
حياتك مثل حياتي وحياتهم فكلنا سواء ولكننا لا ندرك اننا واحد ، كما يقول الله تعالى ما بعثكم ولا خلقكم إلا كنفس واحدة ،سورة لقمان ، فنحن حقيقة واحد ولكننا غير مجتمعين على الحقيقة الواحدة ولا على الاتحاد الواحد ولا المنهج الواحد ، ولهذا نتفرق في الطرقات ولكننا نسير الى مسير واحد الى الله الخالق ليوم الحساب ، اعتقد ان الاهل هم من يبكون علينا لانهم يعرفوننا ، اما الاخرين فنحن غير موجودين ولا معروفين إلا في الملء الأعلى إن كنا محسنين وشاهدين ومستشهدين بالذكر .
عبد الحميد وراد
و كأنني قرأت الآية لأوّل مرّة، شكرا على الفكرة...
سلمان وزو منذ 7 سنة
جزاك الله كل خير.
شكرا لنبل كلماتك وصدقها..
شكرا لرقة الأبيض في إحساسك.
1
يارى منذ 7 سنة
نسأل الله حسن الخاتمة .. فالموت محتوم
2
ibtihel منذ 7 سنة
ماأجمل تلك المشاعر التي
خطها لنا قلمكِ الجميل هنا
لقد كتبتِ وابدعتِ
كم كانت كلماتكِ رائعه في معانيها
فكم استمتعت بموضوعك الجميل
بين سحر حروفكِ التي
ليس لها مثيل

3
نادين عبد الحميد
حقيقي كلام حضرتك أكبر بكتير من إني ألاقي الكلام المناسب عشان أرد عليه :)) شكراَ ليكِ ويا رب دايما اللي بكتبه يكون محل إعجاب :)) ..

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا