كتبٌ أقلقتني (1) .. الإسلام بين الشرق والغرب
محمد ابن ادريس العلمي
نشر في 16 فبراير 2016 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
كنت طفلا حين حملت الكتاب أول مرة مقلوبا وأنا أقلد أبي وهو يقرأ أمامي، أتمتم محاولا نطق الكلمات التي تظهر على صفحات الورق كرموز سحرية تحتاج إلى من يفك طلاسمها. دأبت على هذا الفعل حتى أمسكت الكتاب جيدا غير مقلوب واكتشفت حينئذ أنني تعلمت القراءة والكتابة .. أحببت الكتاب وكلما مر على سمعي أن القراءة هي سر الوجود ازداد شغفي بالقراطيس والأسفار .. فكان عهدي معه كدين جديد له مُقدساتٌ وحُرمٌ وجبَ تبجيلها .. آمنتُ بأن الإنسَان على هذه البسيطة رهينٌ بسر إيجَاده المقرون بكلمة الحسم وهي "اقرأ" .. كنتُ أبحثُ عن الكتب التي تقلقني دائماً .. كتبٌ تزعزع كياني وتنبتُ روحَ التحدي وصدمَة المَعاني .. على طريق المنهج والبحث الدؤوب غرقتُ في بعض الكتابات التي كانت لحظةً فارقة في حياتي بالعيش كذلك مع مفكرين أحدثوا بكتبهم وأفكارهم ولا زالوا اهتزازاً عظيما في العقل والقلب اللذين كانا في طور التشكل والبناء الجديد على فضاء صَفحتي البيضَاء التي أرسُمها بألوان متنوعة تعكسُ منابع المَاء المُعكر والصَّافي، ليختلط الوعَاء كاملا ويعرض لوحَاته التشكيلية لإنسان رفض أن يكون كذلك إلى كائن أسمى من الإنسان نفسه. وقد أذكر من بين هؤلاء أبرزهم : علي عزت بيغوفتش، أبو القاسم حاج حمد، عبد الوهاب المسيري والإمام أبي حَامد الغزالي وغيرهم كثير ...
سَمعت بكتاب الإسلام بين الشرق والغرب وأنا أقف في بعض حلقات النقاش لطلبة الجامعة وعلى ألسنتهم شبه تقديس لصَاحبه الذي امتلك قوة فكرية وإرادة سياسية ذاع صيتها في الآفاق. بحثتُ عن الكتاب جادا حتى عثرت عليه عاكسا ذلك القارئ المبتدئ الطموح والباحث عن الحقيقة ولو من أفواه الحمقى والمجانين. قلَّبْتُ صفحاته فصُدمت صدمةً معرفيةً رهيبة أسقطتْ في يدي مجموعة من المسلمات الخاطئة التي كنت أتغنى بها، ودخلت في تيه غريب أفزعني لهول الأسئلة التي توالت علي دون إجابات مقنعة وواضحة. قرأته المرة والمرتين والثلاث ومازلت أفكر في إعادة قراءته مرة أخرى لأنه بحر لا ينضبْ وأنا مغترف لا يتعبْ.
يقول المفكر عبد الوهاب المسيري في تقديمه للكتاب الذي ترجمه الأستاذ محمد يوسف عدس، إن علي عزت بيغوفتش مجاهدٌ مجتهد وكذلك كان؛ فهو شاعري في كتاباته، فيلسوف في تكثيفه للنصوص، مفكر في استنباطاته المجددة، وسياسي محنك أنقذ بلاده وأمته (البوسنة والهرسك) بصدق وإخلاص. وكان هذا الكتاب مفتاح السر للمُفكر العملاق عبد الوهاب المسيري ليعكف على كتاباته العميقة في نقد النماذج التفسيرية المادية الغربية، وقد اعترف مراراً وتكراراً بالصدمة المعرفية التي أحدثها كتابنا للمسيري المفكر والإنسان.
لا أريد أن أقدم قراءة في الكتاب بقدر ما أطمح إلى تدوين إشارات معرفية ووجدانية تفاعل معها العقل والقلب وهما يَسْبَحَان في بحر الكتاب.
لقد كانَ هم بيغوفتش الوحيد والأوحد اكتشافُ اللحظة الفارقة التي ينتقل فيها الإنسَان من حيوانيته التي يرفضها أصلا أو الوقوف على لحظة الدوار الميتافيزيقي التي ينتقل فيها الإنسان من الحيوانية إلى الإنسانية للبحث عن البُعد النهائي الكلي والإجابة عن سُؤال ما الإنسَان؟، فكتبَ يفكك النماذج التفسيرية المادية التي تشيؤ الإنسان ويصبح معها سلعةً في عالم السوق المُنفصل كليا عن الأخلاق والقيم الكونية، والتي تُسقِط علاقاتِ القرابة وتُخضعُ كل شيء للتفاوض والتعَاقد.
ومن أجل تجاوز حدود الطبيعة التي وضعتْ المادية نفسَهَا داخل إطارها وأصبحت بذلك أسطورة تحاول جعل منظومتها دستوراً للتقدم طلبا لصف الحداثة وما بعدها، كان يفكر بيغوفتش باحثا عن مسببات الانتقال من هذا السجن الذي أضعف تواجد الروح التي تَهبُ الحرية للإنسَان فتحرره من المادة التي ترتكز على الكم، وهو الخط الفارق بين العقل والأخلاق. لكن الذي يجعل فك الارتهان بهذه المنظومات المادية فصل المقال بين قوتين أساسيتين في كتاب الإسلام بين الشرق والغرب: الثقافة والحضارة وهما في اعتقادي الوعاء الذي يضم كل النقاشات التي حاول بيغوفتش تفكيكها ضمن القسمين اللذين ناقش فيهما كل المتعلقات المرتبطة بالدين والإسلام كطريق ثالث يتجه نحو التسليم لله.
الثقافة عند بيغوفتش تعني الإيمَان، وهي تأثير الدين على الإنسان، وهي الفن الذي به يكون الإنسان إنسانا، وهي تؤدي دور التنوير وتحتاج دائما إلى التأمل. بينما الحضارة هي قوة الطبيعة على طريق العلم، ووسائلها تنحصر في الفكر واللغة والكتابة، ومنها كان حامل الثقافة هو الإنسَان وحامل الحضارة هو المجتمع. والحضارة مختلفةٌ تماما عن سياق تكريم الإنسان وهي تتقول الشعار التالي: "انتج لتربح واربح لتبدد". بالتالي كانت الحضارة متعلقة بالوظيفة والسيطرة وصناعة الأشياء، وهي استمرارية للتقدم التقني وليس الروحي .. وكخلاصة لذلك: الحضَارةُ تعلم أما الثقافة فتنور، أي أن الأولى تحتاج إلى تعليم والثانية إلى التأمل.
يميز بيغوفتش بين الأخلاق وعلاقتها بالدين وإمكانية بناء أخلاق عملية منفصلة عنه، أو بناء مجتمع ملحد لكنه أخلاقي ويصف الأخلاق بما هي دين آخر، لكنه يؤكد على ضرورة اقتران الأخلاق كمبدأ بالدين، بينما الأخلاق العملية فبإمكانها أن تتواجد في غياب الدين بحكم القصور الذاتي لانفصالها عن القوة المبدئية، بالتنبيه على انتفاء بناء نظام أخلاقي على الإلحاد ومع ذلك فإن الإلحاد لا يبطل الأخلاق على الأقل في أدنى أشكالها، ويعني بذلك بيغوفتش النظام الاجتماعي. وفي هذا يقول بيغوفتش بعبارة واضحة: "يوجد ملحدون على أخلاق ولكن لا يوجد إلحاد أخلاقي". وهذا قد يحيلنا على انعدام مجتمع بغير دين حتى كتب الشاعرandrei voznesensky : "إن كمبيوتر المستقبل سيكون من الناحية النظرية قادرا على عمل كل شيء يقوم به الإنسان فيما عدا أمرين: أن يكون متدينا وأن يكتب شعرا". ونستحضر بقوة خطة الفلسفة الرسمية لمَاوتسي تونج في المجتمع الشيوعي الصيني الذي أراد أن يفصله كليا عن التراث الثقافي، وينشأ جيلا جديدا غير مرتبط بالثقافة ومتعلقاتها وحالات الاجتماع والقطع بالتالي مع الفنون والآداب وكل ما من شأنه إضفاء صورة روحية أخلاقية مُنسجمة مع الثقافة "التقليدية" للتراث.
كيف يمكن للإنسان أن يقوي إيمانه؟ والإجابة هي : "افعل الخير تجد الله أمامك" هكذا كتب بيغوفتش يقول ضداً على أخلاق القوة التي تنطلق من إشكاليةِ وُجوبية تبرر الظلم والكراهية، وذلك بضرورة "تحطيم الضعفاء" بدل "رحمة الضعفاء". وهاتان الدعوتان المُتعارضتان تفصلان البيولوجي عن الإنسَاني والطبيعة عن الثقافة والعلم عن الدين، وكل ما فعله نيتشه أنه طبق قوانين علم البيولوجيا ونتائجها على المجتمع الإنساني (إذا كانت أفكار نيتشه امتدادا فلسفيا لداروين فإن هتلر ونازيته اشتقاق سياسي من كلا المذهبين) وكانت النتيجة نبذ الحب والرحمة.
هنا يمكننا تمييز نور الطريق الثالث المختلف عن المسيحية الأخلاقية واليهودية الهاجرة أي تمييز سبيل "الإيمان" الذي يؤثر في العالم عند ارتباطه الدنيوي المعني بالسياسة في معناها الواسع، والممتزج بين العالم الجواني وعالم الواقع أو البراني. على عكس المسيحية الأخلاقية المغايرة للمسيحية اللاهوتية المقتصرة على إنقاذ الإنسان من الإنسان نفسه رغم اختلاف النتيجة الظاهرية مع النتيجة الباطنية في قضية الأخذ والعطاء.
هذه بعضٌ من أفكار المفكر والإنسَان "علي عزت بيغوفتش" التي أقلقتني؛ بل لقد أقلقني الكتابُ كله، ولا توجد كلمة فيه إلا ولها دلالة عظيمة تحتاج إلى وقفات عميقة لاستيعابها ضمن السياقين الثقافي والحضاري. وهذه أول حلقة من سلسلة الكتب التي صدمتني واهتز لها عرش عقلي خلال عمري الصغير. هي أسفارٌ شكلتْ عقلي وسَاهمتْ في تقعيدي المَعرفي البسيط، أحاول أن أتناولها تدوينا بما عايشته معرفيا ووجدانيا وبقدر ما يسمحُ به المقام والمقال، مع الحرص على المنهج وفكرة الروح التي تبني الإنسَان العارف. وسلام إلى الذين همهم الورقة والقلم والحرف.