فهد رشدان والهمة العالية - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

فهد رشدان والهمة العالية

  نشر في 16 نونبر 2022  وآخر تعديل بتاريخ 19 نونبر 2022 .

من الصعوبة بمكان أن يختزل الإنسان ربع قرن من الصحبة في الله ويجعلها في مقال واحد، يعتصر فيها ماضٍ من الذكريات التي لن تغيب عن الخاطر، ويحزن بها القلب كلما تذكر أحداثها العتيقة. 

فهد رشدان المطيري-رحمه الله- لم يكن مجرد صاحب وصديق، فقد عشت معه ذكريات الشباب في حلقات القرآن الكريم، وساعات الالتزام الأولى التي لا ينسى القلب نشوتها ولذتها ثبتنا الله عليها وتقبل من أخينا إقباله عليه وهو متمسك بها.

عرفت هذا الشهم عام (1421هـ) ومنذ ذلك الوقت وهو يزيد في ناظري ارتفاعاً، ويزداد في قلبي هيبة ومحبة، فرغم صغر سنّه حينها فهو في المرحلة المتوسطة إلا أنَّه يظهر عليه علامات التميّز والنبوغ، أكاد اتجسّر الكلام فأقول (قلَّ نظيره في أبناء جيله ومن هم في أسنانهم) مختلف الاهتمامات، عالي المقاصد، بعيد الأفق، كريم السجايا، دمث الأخلاق، وهذا ما يجعلني أتردد في كتابة ما أعرفه عن فهد، فلا يكفي مقالاً عمَّا تحفظه الذكريات من المواقف، ولكنِّي سأختصر المقال وأختزل السنين الطويلة بيني وبين أخي فهد في ذكر المواقف بيننا في المرحلة الثانوية فقط، وأذكر من القصص التي وقفت عليها بنفسي -ولم يخبرني عنها أحد- ما تنشط بها همم الجيل وتشرئب بها الأعناق إلى الطاعة والهمة العالية ونعلم سبب التميُّز الملحوظ في شخصيته.

علماً أني سأذكر القصص مما يمليه عليَّ عقلي دون بحث كبير، ولا سياق مطَّرد غير ذكر القصص المتعلِّقة بالهمة العالية، فقد أنسى الكثير منها، وأذكر ما هو أقل عجباً من غيرها، فالحزن على أخي ينهشني من جهة، والتاريخ الطويل من جهة، والذاكرة الضعيفة من جهة أخرى.

[القصة الأولى] أعلن مشرفو الحلقة مرة عن مسابقة لمراجعة القرآن الكريم لمدة أسبوعين وكانت الجوائز مجموعة من الكتب الكبيرة، فسال لعاب اخي فهد-رحمه الله- لتلك الجائزة فهو يعشق الكتب بطريقة عجيبة، وكان مما اشترطه المشرفون لحجوزات التسميع أنَّ أول من يضع كرت التسميع الخاص به هو من يسمع أولاً شريطة أن لا يغادر المسجد وإلا سيُسحب كرت تسميعه، خشية أن يأتي طالب بعد العصر مثلا فيضع كرته ويذهب إلى بيته ويعود المغرب ويكون تسميعه الأول، فمادام أنَّه أتى بعد العصر فيمكث إلى المغرب ليتسنى له التسميع المبكر، وكان فهد ممن يسمّع مبكراً من الثلاثة الأوائل فقد كان يصلي العصر في المسجد ويمكث في المسجد إلى العشاء، فلما رأى الشباب همّة فهد أصبحوا يأتون مبكرين ويصلون العصر في المسجد للحجز المبكر، فلما رأى فهد همَّة إخوانه أصبح يأتي قُبيل العصر، فهممت أنا وبعض الأحبة أن نسبقه في ذلك فلمَّا علم عن تدبيرنا أصبح يخرج من المدرسة ويأتي بشنطته للمسجد في حوالي الساعة الثانية والنصف، فأتعبنا بهمته، وفي آخر يوم اتفقت مع (8) من الشباب أن نستأذن من المدرسة قُبيل الظهر وندخل المسجد مع أذان الظهر لكسر همَّة فهد لو مرة واحدة، شعر بذلك التدبير فأعدَّ العدة على خطَّة لا تخطر ببال فقد غاب عن المدرسة ذلك اليوم وأتى المسجد قبل الفجر في تمام الساعة الرابعة والنصف ونوى الاعتكاف في المسجد يوماً كاملاً ودخل معتكفه قبل الفجر إلى صلاة العشاء ليضمن أن يكون أول من يسمع ولا يسبقه أحد، فقلي بربَّك من يصبر على ذلك وهو ابن (16) سنة وفي الصف الأول ثانوي.

[القصة الثانية] كانت الحلقة بالنسبة لفهد ليست مجرد حلقة تسميع بل هي رباط في المسجد ومجلس للعلم ومكان للإكثار من الأجر، مما أذكره أنَّه أصيب ذات مرة في رحلة من الرحلات وهو في النشاط الرياضي إصابة تأثر منها فكُّه وأسنانه والظاهر من وجهه من جهة الفم، فسبب له ورماً لا يستطيع معه الحديث إلا ما يهمس به لمن بجانبه، ومع ذلك كان يداوم يومياً في الحلقة فكان يقول له مشرف الحلقة ألا تستريح في منزلك يافهد وترتاح لبضع أيام فأنت لن تستطيع التسميع ولا الكلام، فكان يقول له بصوت خافت أنا لم آتي الحلقة للتسميع فقط بل لأجر الحلقة ومجالس العلم والصحبة الصالحة، ومكث أياماً يحضر الحلقة بدون تسميع، فقط لأجر المجلس ولحضور الدروس التربوية في الحلقة ومجالسة أهل القرآن فقلي بربَّك من يصبر على ذلك وهو ابن (16) سنة وفي الصف الأول ثانوي.

[القصة الثالثة] أقام مشرفو الحلقة مرة سباقاً لقراءة الكتب، وكانت فكرة المسابقة التي بلغت (14) يوماً أنَّ الأكثر قراءة للكتب وبعدد الصفحات تحديداً مع فهم ما يقرؤه هو الأول في السباق، فتشوفت نفس أخي فهد للقراءة وللهدية الكبرى وهو مجموعة من الكتب منها نزهة الفضلاء ومجموعة من التفاسير والكتب الكبيرة، فكان يقرأ طيلة اليوم صباحاً ومساءً، لا يجد وقتاً إلا وقرأ فيه، في المنزل والمسجد والمدرسة والطريق، فقرأ فيها مجموعة من الكتب تربوا عن خمسة عشر كتاباً، زاد عدد ماقرأه من الصفحات في تلك المسابقة عن (2500) صفحة.

[القصة الرابعة] كان شغوفاً بالعلم منذ أن كان في الصف الأول ثانوي فقد كان من الحريصين على حضور الدورات العلمية الصيفية، بل كان من المميزين في التحضير و المدارسة، والعجيب من أمره أنّه لا يغيب عن النشاط والرحلات في التحفيظ قطّ، وقد جاءت عليه فترة يتذبذب فيها حضوره للرحلات، فقلت في نفسي: ما يتغيب فهد إلا ولديه أمر يشغله، فبحثت عن أمره فوجدته يغيب عن الطلعة وكانت إجازة الأسبوع يوم الأربعاء حين ذاك، ويذهب إلى درس الشيخ محمد المختار الشنقيطي يريد أن يرى الشيخ ويحضر دروسه ويتعلم منه، بل الأعجب من ذلك همس لي ذات مرة حينما رأى مني ومن بعض الإخوة الحرص على العلم ما رأيكم  أن أنسّق مع أحد المشايخ ونحضر في بيته ليشرح لنا متناً في الفقه، فوافقنا على مضض، فقام بترتيب الدرس مع أحد المشايخ في وسط الأسبوع بعد صلاة العشاء، وكنا نحضر عنده فترة من الزمان وكان هو الذي يقرأ عليه، ويلخّص لنا الدروس ويراجع لنا حتى نضبط الدرس، تذكر أنَّ ذلك كلّه وهو في الصف الثاني ثانوي.

[القصة الخامسة] كان حريصاً على وقته يحب أن يشغله في العلم والمطالعة فلمَّا رأى أن الوقت يسرقه والدوام الطويل في المدرسة ونحن حينها زملاء في مدرسة (حمزة بن عبدالمطلب الثانوية) بحي المروة، همَّ في الصف الثاني ثانوي أن ينتقل إلى مدرسة مسائية لطلب والدته حفظها الله الانتقال إلى مدرسة أقرب وليطول له الوقت ويستطيع أن يذاكر أكثر وقد ذكر لي شخصياً رغبته في ذلك، والحقيقة أنِّي كنت أشك في مقدرته على ذلك لعلمي أنَّ الدوام المسائي يزيد من خمول الإنسان؛ ولكنِّي ما أحببت أن أردَّ همته فدعوت له وكان صعباً علي فراقه وفراق مجالسته في المدرسة فقد كنَّا بجانب بعضنا في الصف، وفعلاّ كانت انتقالة أخي فهد إلى الدوام المسائي مفترق طرق في حياة فهد العلمية، فقد كان جدوله صارماً ومما أطلعت عليه أنَّه يصلي الفجر ثمَّ يعود للنوم لساعتين ويستيقظ في تمام الساعة (8) صباحاً ويبدأ في تلخيص الدروس المسموعة وقراءة الشروحات والمتون والاطلاع إلى تمام الساعة (11) صباحاً ثم يذهب إلى المدرسة ليعود بعد صلاة العصر إلى بيته ليحضّر لتسميع للقرآن ليذهب بعدها للحلقات القرآنية إلى بعد صلاة العشاء، وكان له برنامج قراءة مسائي يسهر فيه، ومما أذكره أننا تدارسنا كتباً متفرقة مثل شرح الواسطية وشرح العمدة في الفقه وفي أجزاء من التفسير ، تذكر أنَّ ذلك كلّه وهو في الصف الثالث ثانوي فقلِّي بربك من مِن أبناء الجيل بهذه الهمة وهو في هذه المرحلة العمرية..

[القصة السادسة] كان فهد ممن أكثر على مشرف الحلقة على أن نحج على السنة ولانؤخر بعض الأعمال عن وقتها المسنون كسعي الحج أو تأخير طواف الإفاضة مع الوداع وكان يكرر نحن شباب وفينا فتوة وحقيقة كان الأمر صعباً ويحتاج خروج عن برامج الحلقات المشاركة وتكبّد المشاق من المشي الكثير والدخول في أوقات معينة كالدخول بعد الزوال لعرفة مع إغلاق الطرقات إلا أنه كان يصرّ على مشرف الحلقات حتى وافق وأخذ بأيدينا مع الثقل وأخذ يذّكرنا بالأجر وإصابة السنة فحججنا بفضل الله على السنة وكانت حجّة مباركة ميسرة، جمعنا فيها بين تطبيق السنة في الحج وبين الصحبة الصالحة المعينة على ذلك، بل كان يذكّر الشباب أن يكونوا في وقت التحلّل محلّقين رؤوسهم لا مقصرين طلباً للسنة والأجر الأكبر للحلق، ويقول رحم الله المحلّقين ثلاثاً والمقصرين مرة فأصيبوا السنّة وأدركوا دعاء الرحمة منه عليه الصلاة والسلام ثلاثاً. 

[القصة السابعة] ما رأيت أحداً أحرص على الأذان وإدراك فضله من فهد رشدان أمره عجيب جداً، كان مما يشترطه المشرفون في الطلعات أن يدخل في قرعة الأذان أن يكون أول عشرة يقفون في الصف الأول وكان فهد يظهر عليه القلق خوفاً من انشغاله وذهاب الأجر عليه، وذات مرة كان النشاط الرياضي يبعد عن المصلى مسافة تقارب كيلو، والمصلى في أعلى تلٍّ لا تستطيع الطلوع إليه غالباً إلا بالسيارة والمتفق أن تذهب كل سيارة بقائدها مسرعة لتدرك الصف الأول ويكونوا ممن يدخل في قرعة الأذان فمن حرصه  ذات مرة وخوفه أن لا يدرك الصف شق الصفوف يجري جرياً سريعاً إلى مكان المصلى مع بعد المكان وأخذ يدخل من بين الأشجار والطرق الغير ممهدة حتى وصل المكان وصعد التل مسرعاً يسابق السيارات حتى وصل للمصلى قبل الجميع كل ذلك ليدرك الصف الأول والأذان، وما أذكر أني حضرت رحلة إلا وكان فهد من المقترعين للأذان طيلة صحبتي له في الحلقات، فقلِّي بربك من يستطيع على ذلك وهو ابن (١٦) سنة وفي الصف الأول ثانوي.

[القصة الثامنة] تأثرت كثيراً به في استغلال مابين الأذان والإقامة بالدعاء فقد كان كثير الدعاء والتضرع، وكان يذكّرنا دائماً أن أفضل الأعمال بين الأذان والإقامة الدعاء فلا تنشغل بغيره، ولقد رأيته مرات عدة يشرع في الدعاء بعد الأذان ولا يُنزل يده إلا على إقامة الصلاة وكم أثر فيّ هذا الموقف منه رحمه الله رحمة واسعة.

[القصة التاسعة] كنا جلوساً ذات مرة في مجلس ذكر وذكر أحدهم حديث أنس بن مالك (مَنْ صلَّى للهِ أربعينَ يومًا في جماعةٍ ، يُدْرِكُ التَّكْبيرَةَ الأُولَى ، كُتِبَتْ لهُ بَرَاءَتَانِ : بَرَاءَةٌ مِنَ النارِ، و بَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ) فتحمس مجموعة من الشباب لإدراك هذا الفضل العظيم وكان ممن تحمس لذلك أخي فهد وقد لاق المشاق الكثيرة لإدراك هذا الفضل وقد وفقه الله لذلك لإتمام تكبيرة الإحرام أربعين يوماً بعد التعثر في إدراكها لأكثر من مرة فأسأل الله العظيم أن يكتب له البراءة من النار. 

هذه قصص أتت مبعثرة دون ترتيب، وفي الحقيقة أنَّ المواقف كثيرة وفي الجعبة كثير، وقد اختزلت اختزالاً مخلّا للغاية، ولولا أن أطيل على القارئ لذكرت الكثير من المواقف في المرحلة الثانوية وفي غيرها وهي الأكثر تميزاً ورسوخاً وعلماً وفهماً، إلا أني التزمت على نفسي أن يكون مقالاً لا كتاباً، وما نسيته أكثر مما ذكرته، فأنا اكتب وعبرتي تسبق عباراتي، وذهني في شتات كبير من التأثر والألم.

رحم الله ذلك الجسد الطاهر والقلب النقي والروح السامية، اللهم بفضلك وجودك وعطائك اغفر له ماتقدم من ذنبه وما تأخر، واجعله ممن أدخلته الجنة دون حساب ولا عقاب ولا عذاب، واجمعنا به في جنات الخلد يا أكرم مسؤول و يا أعظم مأمول.


  • 1

   نشر في 16 نونبر 2022  وآخر تعديل بتاريخ 19 نونبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا