مشكلة اللغة في العالم العربي - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

مشكلة اللغة في العالم العربي

  نشر في 11 مارس 2018 .

اللغة ليست مجرد حروف متناثرة، فهي فلسفة حياة و ثقافة تعبر عن إلى أي مدى فكري و حضاري يمكن أن يصل الإنسان من خلال اللغة، فكلما ازداد عدد أسماء الأشياء ـ المصطلحات ـ كلما اتسعت دائرة القدرة على التعبير و التفكير. فاللغة هي الوسيلة الوحيدة للتعبير عن الإحساس وهي الطريق الأوحد إلى التفكير داخل و خارج الإنسان، أي أنها وسيلة تواصل الإنسان مع ذاته، و مع الكون، و مع الناس و الحياة . فبدون لغة لا يوجد تفكير و لا إحساس، و لا قدرة عليهما و لا استيعاب لما يقوله المفكرون و لا لما ينطق به الكتاب المسطور و الكون ( أي الكتاب المنظور )..

اللغة إذن هي أهم ما يملكه الإنسان، أهم من كل شيء آخر، و لذلك قيل في تراثنا : تكلّم حتى أراك .. و قال الشاعر : لسان الفتى نصف و نصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم و الدم.. و قال أبو حنيفة النعمان مقولته الشهيرة : " حان لأبي حنيفة أن يمدّ رجليه " بسبب تفاهة لغة متكلّم يبهر منظره و هندامه و لكن كلامه يفصح عن سطحية تفكيره !

بل في القرآن الكريم ما يشير إلى أن اللغة و البيان هي أعظم نعمة أنعمها الله عز و جل على الإنسان. { و علم آدم الأسماء كلها } فقيمة آدم الحقيقية تكمن في قدرته على تسمية أسماء الأشياء، أي في إمكانية صناعة الحضارة، فلا حضارة بدون لغة ! فلم يكن الملائكة المقربون و هي مخلوقات نورانية لتسجد لمخلوق طينيّ لولا أنه تميّز عليها بشيء خارق لا قدرة لها عليه ! إنها اللغة ... فاللغة بمعناها الواسع هي القدرة على تسمية كل موجود و كل ما يمكن أن يوجد.. و من خلال تلك التسمية لكل ما هو موجود تأتي مرحلة القدرة الكبيرة الواسعة على التفكير و الربط بين الموجودات و استخلاص النتائج الجديدة في سيرورة مستمرة للعمل الحضاري المتجدد باستمرار. هكذا تصنع الحضارة، فلا حضارة بلا لغة، و لذلك أربط بين واقعنا العربي المنحط و بين عجز الشعوب التي تسمى " عربية " و تنسب نفسها إلى العرب و العروبة و ذلك بهتان عظيم ـ و ذلك موضوع سأناقشه في مقالة قادمة إن شاء الله ـ..

من هنا فإن لكل جيل لغته، و لكل عصر لغته، فاللغة مطالبة بالتعبير عن هموم و قضايا و مشاكل و حقائق و تطلعات و معارف عصرها، كما هي مطالبة بتقديم مسميات جديدة باستمرار، لكي تستخدم في إطار أوسع ليتم التواصل المعرفي بين أبناء المجتمع الواحد باتساق و توافق مع العصر الذي يعيشون فيه، و إلا أصبحوا خارجه زمانا ـ تاريخا ـ ثم مكانا أيضا ـ جغرافية ـ !! فلا قيمة للغة تجمد على ما وصل إليه الأسبقون! لأن العالم يتطور باستمرار، و لا يمكن للغة جامدة متقولبة في قاموس قديم أن تفهم الحاضر الأكثر تطورا، فضلا عن أن تصنع مستقبلا إلا في إطار التخلف و التقوقع إلى الوراء ! فما بالك إذا عجزت لغة المعاصرين حتى عن استيعاب إنجازات السابقين ؟!

اللغة كائن حيّ يخضع لسنة التطور و التقدم المستمر، و ليست بكائن جامد، فهي وسيلة التعبير لا غايته.

و كلما كان الإنسان أقدر على تسمية الأشياء الموجودة، و تخيل أسماء الأشياء التي لم توجد بعد، كان إنسانا أقدر على صناعة الحضارة، و العكس صحيح، فكلما كان الإنسان عاجزا عن تسمية الأشياء، كان متقدّما في تخريب الحضارة! إنها ليست بالقضية الهيّنة كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان، و ربّما نستشّف من هنا الإشارات القرآنية المبكّرة إلى القسم الإلهي بالكثير من الحروف .. { ألم } { ألمر } { كهيعص } { يس } { طسم } الخ ..

إنها ليست مجرد حروف، إنما هي المادة الخام لصناعة الحضارة. و هي الحروف ذاتها التي يعجز عن قراءتها و كتابتها اليوم ـ في القرن الحادي و العشرين ـ أكثر من نصف سكان الشعوب العربية المعاصرة البالغ عددها 350 مليون نسمة .

و من هنا ندرك الربط الهام بين القراءة و هي أول ما نزل في الوحي { إقرأ باسم ربك } و بين الكرامة الإنسانية المتمثلة في قوله تعالى { اقرأ و ربك الأكرم الذي علم بالقلم } ! فطريق الكرامة الأوحد هو القراءة .. و القراءة بمفهومها الأشمل و كل متعلقاتها التي لا يتم الواجب الحضاري إلا به، من التهجي إلى البحوث العلمية و الدراسات الميدانية و مراكز البحوث المتخصصة و المتعمقة ..

فبدون قلم لا يوجد تدوين العلم و المعرفة و لا تراكم .. فلا شيء مهمّ بعد اللغة سوى القلم الذي يدوّن ما تصنعه اللغة من فنون و علوم و معارف و أفكار و قيم و فلسفة. و في تراثنا أن القلم هو أول ما خلق الله! ترى هل كان ذلك صدفة ؟َ! كما أن الله تعالى يقسم في سورة نون بالقلم : { نون و القلم و ما يسطرون } فالقسم هنا بالقلم و بما يسطر الناس به، و يشمل ذلك كل ما تخطه يد الإنسان من أفكار و معارف و فلسفات و آداب على مر التاريخ البشري! أليست هنا إشارة واضحة إلى أن كل الحضارات ستخرج من رحم اللغة و القلم ؟ فالمعارف الإنسانية لا يستهان بها سواء جاءت استنباطا من الوحي مباشرة ، أو من خلال الكتاب المنظور الذي هو الكون و الحياة، أو من خلال التجارب و الأفكار و الخواطر الشخصية الذاتية ! كيف و قد أقسم القرآن بها ؟! تلك القيمة الحقيقية للإنسان، و ذلك هو سر سجود الملائكة له تقديرا و تعظيما لما سيقوم به من رسالة حضارية فريدة من نوعها في عالم الكائنات و المخلوقات !

فأي قيمة للإنسان الغير قادر على التعامل مع اللغة .. صناعة اللغة .. فهم اللغة .. ؟ أي قيمة للإنسان حين يعجز عن التحدث باللغة ؟

نستطيع أن نقول بكل تأكيد أن أهم طامة تعيشها الشعوب العربية المعاصرة، و هي طامة أخطر من كل القتل و الدمار و الطائفية و العشوائية و التيه و الخراب المشاهد، هي طامة العجز عن الإرتقاء إلى مستوى اللغة العربية، تلك اللغة الجميلة الشاعرة بتعبير عباس محمود العقاد، بل أستطيع أن أزعم أن كل هذه الطوامّ ما هي إلا مظهر من مظاهر و نتيجة من نتائج ذلك العجز التام في تعامل الشعوب العربية مع لغتها العربية. و هذا هو الذي قصدت به أن عرب اليوم لم يعودوا عربا بمعنى الكلمة ..

يكمن ذلك العجز القاتل في أن الشعوب العربية لا تتحدث بلغتها المكتوبة، فهي تدرس لغة في المدارس لا تستخدمها في البيوت و المجتمعات، مما يخلق فجوة فكرية هائلة، على خلاف الشعوب الأخرى التي تربطها بلغاتها روابط جد قوية، فلغة المدرسة هي لغة الحديث اليومي، و هي لغة الآداب و العلوم، أي أنها هي أداة الفكر و التواصل. فلا يوجد إشكال البتة في سلاسة الحديث و التفكير الذي ينطلق دون عوائق تعوقه. أما في المجتمعات العربية فداخل كل فرد مجموعة أفراد و قيم و أفكار متضاربة و عوائق صنعها الإنفصام المزعج بين لغة العلم و المعرفة و لغة الحديث اليومي ! و من هنا تخلق الفجوات المروعة بين الفرد و تراثه، و بين الفرد و نفسه، و بين النخب المثقفة و العامّة، و بين الحاكم و المحكوم، و بين المحكومين أنفسهم بعضهم مع بعض !

كما أن اللهجات العامية من طبيعتها أن تعبر تعبيرات محدودة لا يفهمها إلا من هم في دائرة ضيقة، كالمدينة الواحدة، بل و كثيرا ما تزداد ضيقا حتى تكاد تجد لكل أهل حي و حارة مصطلحاتهم الضيقة الخاصة التي لا يفهمها غيرهم !

أصبحت اللغات الدارجة العامية وسيلة قطع الصلة و الحوار بين الناس في المجتمعات العربية، في حين أن الأصل في اللغة هو التواصل و التثاقف و تبادل الفكر النافع من أجل صناعة الحضارة!

إن اللغة ليست قوالب جامدة، بل هي تطور مستمر.

مصيبة أخرى تكمن في عجز الشعوب عن فهم و إدراك لغة النخب المثقفة التي تغرد خارج السرد غالبا، و بلغة غامضة غير مفهومة حتى من طرف من يكتبها ! لغة لا تعبر إطلاقا عن هموم و تطلعات القواعد الشعبية الغارقة في الأمية و الجهل و قاموس لغوي دارجي محدود بحدود المعدة و الحاجات البيولوجية الضيقة ! و عجز المثقفين عن التواصل مع الشعوب، فترى الكثير منهم، بدلا من القيام بمسئولية الإرتقاء بها، يصابون بالنرجسية النخبوية المتعالية، و يرتمون في أحضان الإرتزاق الفكري !

فأي قيمة للكتابة في عالم شعوبه لا تقرأ ؟ بل قل شعوب لا تقدر على فعل القراءة و لا تقدّرها حق قدرها ؟! و كيف تفعل ذلك و نصفها أميّ لا يعرف القراءة و الكتابة، في عصر لم تعد الأمية فيه تقتصر على تلك المصيبة الأولى ـ عدم القراءة و الكتابة ـ ، بل أصبحت الأمية فيه تتعلق بمن يجهل علوم المستقبليات و البيولوجيا و الثورات العلمية المتعاقبة و السريعة كما يقول علاّمة المغرب المفكر المهدي المنجرة رحمه الله .

و أي قيمة لكتابة لا تسعى لنفع الناس و الإرتقاء بحياتهم و لا تساهم في حلول مشاكلهم ؟!

إنها شعوب تفقد كرامتها مرّتين، مرة بنص القرآن { إقرأ و ربك الأكرم } فلا كرامة لمن لا يقرأ. و مرة ثانية مقارنة مع شعوب معاصرة تتنافس في قيمة العلوم و عدد المطبوعات و عدد القرّاء، حيث لا مجال للمقارنة مع الأمة التي تزعم أنها تؤمن ب{ إقرأ } !!

إنه إيمان الحمقى و المغفلين .. إيمان الجنون و اللامعقولية و الغباء ! إيمان الترديد الببغائي العاجز !

إيمان الجاهل الذي يعتقد أنه أفضل من العالم، و المريض الذي يظن أنه أفضل من السليم !

إنه إيمان لا ينفع و ادّعاء بحاجة إلى بيّنة، فكما أن هناك علم لا ينفع فهناك أيضا إيمان لا ينفع، و إسلام لا ينفع، و تدين لا ينفع، و عروبة لا تنفع، و ادعاءات كلها ترهات و خرافات لا تثبت أمام التمحيص العلمي !

و خلاصة القول أن عجز الإنسان العربي عن الإرتقاء إلى عظمة لغته هو لبّ الأزمة الحضارية الطاحنة، تلك الأزمة التي تخلق فجوات و عوائق و قيود بين الإنسان و ذاته، و الإنسان و الكون، و الإنسان و الحياة، و هو ما يفسّر التيه الجماعي و اللامنطقية في المجتمعات العربية المعاصرة، و الفجوات اللانهائية ..

فالخطوة الأولى في طريق الخلاص من الإنحطاط الحضاري أمام الشعوب " العربية " هي أن :

ـ تعقد الصلح مع لغتها أولا، و تقوم بإتقانها ـ تعلّما و تعليما ـ.

ـ تتعامل مع اللغة العربية ككائن محترم عزيز، فهي لغة العلم و المعرفة و الآداب، كما أنها لغة البيت و الشارع و الحياة اليومية.

ـ أن يقوم أهل الإختصاص بتطوير اللغة وفق العصر و آفاق المستقبل، و يتم إخراج قواميس عصرية شاملة، ثم تتسلل المصطلحات العصرية الضرورية إلى لغة الحياة اليومية بشكل طبيعي، تخلّصا من الهذر ..

ـ غربلة التراث العربي غربلة دقيقة و شاملة، مع إبقاء النافع المفيد، و كشف وإهمال التافه السقيم والمكذوب و المندسّ.

ـ الإنفتاح على لغات و ثقافات العالم من منطلق قويّ و راسخ، بلغة ثقافية قوية راسخة.

بهذا فقط يمكن القضاء على الإنفصام المرضي في سيكلوجية العربي التائه المعاصر، تائه بين فهم خاطئ للذات و التراث، و بين أن يكون مجرد ذيل "للآخر " ببغاء يردد ما وصل إليه ! كما يمكن إعادة الثقة في نفسيته و شخصيته المهتزّة، فاللغة لا تعطيك شيئا إذا قزّمتها في جانب محدود من حياتك، و ذهبت تتحدث طوال يومك بعامّيات قاصرة، و بقاموس مختزل محدود. فكيف بمن ليس بينه و بينها أية صلة أصلا، و لم يقرأ في حياته الممتدة كتابا واحدا؟! و كيف بمن يقرأ لكنه لا يفهم ما يقرأ .. أو من يقرأ لكنه يفهم عكس ما يريده الكاتب و الكتاب ؟! تلك قضايا ومواضيع مهمة أخرى ..و كما أنه لا حاضر و لا مستقبل لمن لا ذاكرة له، فلا كرامة ولا فكر و لا حضارة لمن لا لغة له. { خلق الإنسان علّمه البيان } .

و إلى لقاء آخر مع مقال : هل نحن عرب حقا ؟ من هو العربي ّ ؟ 



  • علي
    أستاذ لغات، أتحدث الإنجليزي و الإسباني، لدي اهتمامات فلسفية و فكرية ..
   نشر في 11 مارس 2018 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا