هناك اتجاه راسخ بأن كل منا مسؤول مسؤولية كاملة عن مصيره، الداعم الرئيس لهذه الفكرة هو مبدأ الجدارة الذي يشير إلى أن وصولك إلى أعلى المراتب الوظيفية دليل على استحقاقك و على أنك جدير بذلك، وعلى الجانب الآخر فإن فقرك أو عدم قدرتك على الحصول على عمل هو دليل أيضا على أنك تستحق ذلك.
أساس هذا المبدأ هو أن النظام التعليمي يوحي بأن جميع أفراد المجتمع يحصلون على نفس الفرص التعليمية و نفس وسائل تحصيل المهارات اللازمة، ثم يتم التقييم على أساس اختبار الثانوية العامة الموحد على جميع الطلاب و على ضوء نتائجه يتم تصنيفك في المجتمع.
في نهاية مراحل التعليم يتم التوظيف عن طريق ترشيح المتقدمين للوظائف على أساس المهارات و القواعد المعرفية المطلوبة.
إلى هنا يبدو الأمر عادلاً جداً و يثبت نزاهة مبدأ الجدارة، ولكن يبقى السؤال .. هل تظن فعلا أن درجات اختبار الثانوية مؤشر على مدى كفائتك في المجتمع؟ هل تظن فعلا أنه عند التوظيف يتم اختيار الناجحين بناءاً على المهارة؟
في دراسة بعنوان : هل توظيف ايميلي و جريج أكثر سهولة من توظيف جمال و لاكيشه؟
الأسمان الأولان مرتبطان في الأغلب بأشخاص أصحاب بشرة بيضاء عكس الأسمين الأخرين اللذين يرتبطان بأصحاب البشرة السمراء.
أرسل القائمون على التجربة ٥٠٠٠ سيرة ذاتية عليها الاسماء المذكورة بمؤهلات تفوق أو تقل عن متطلبات قرابة ١٤٠٠ وظيفة في مجالات المبيعات و خدمة العملاء و الدعم و الأعمال الإدارية و المكتبية.
النتيجة كانت غير صادمة و معبرة عن اسم الدراسة حيث وجد أن السير الذاتية التي تحمل اسم ايميلي أو جريج تحصل على رد من الشركات بمعدل أعلى بمقدار ٥٠ في المائة.
لكي يحصل صاحب اسم جمال على رد مثل زميله جريج يحتاج لتعويض فارق الاسم بثماني سنوات من الخبرة !!
تنبهوا أيضاً أنه إذا كان عنوان منزلك في منطقة راقية ستحصل على معدل رد أعلى بثلاثين في المائة من قاطني الأماكن الشعبية.
هذه الدراسة كانت في الولايات المتحدة الأمريكية التي تفرض سياسات قوية على أصحاب الأعمال و مسؤولين التوظيف ضد التمييز .. وهنا سأترك لك تخيل ما يحدث في شركاتنا.
ليس التمييز فقط الذي يقلل من فعالية مبدأ الجدارة، فمن الوارد تعثر المراهق البالغ من العمر ١٦ عاما في طريقه الملئ بالاختبارات حتى لو استطاع أن يتبنى عزيمة قوية و إرادة فولاذية لاتخاذ القرارات اليومية الصحيحة التي سيترتب عليها حياته كلها.
حالة وفاة لأحد أقربائه قبيل الاختبارات، عدم قدرته على شراء كتاب البروفيسور الجامعي و اضطهاده له و تبديد آماله في أن يصبح معيداً في الكلية، بل مجرد تقدم فتاة جميلة للوظيفة التي يحلم بها و حصولها عليها وهي لا تحمل نفس مؤهلاته، أي من هذه الاحتمالات كفيلة بأن تحطم معنوياته و ترتيبه في سلم المجتمع تباعاً.
أصبح مبدأ الجدارة واقعاً يفرض ضغطاً نفسيا هائلا علينا رغم خروج الكثير من العوامل الفاعلة عن دائرة تأثيرنا .. هل من الممكن أن يصدقك أحد إذا قلت له أنه تمت إقالتك من عملك بسبب سوء الحظ ؟!
من قبيح هذا المبدأ أيضاً هو إذابة أي تعاطف مع الفقراء أو المحتاجين أو العاطلين عن العمل. تتغير رؤيتك لهم من أشخاص أصحاب ابتلاء أو غير محظوظين إلى فشلة و كسالى لم يستفيدوا أو يحاولوا الإستفادة من الفرص المتناثرة أمامهم يومياً.
مما يجعل ميولنا إلى مساعدتهم أقل، و النظر إليهم بازدراء أكثر فجاجة.
على الرغم من فساد الاعتقاد المطلق في مبدأ الجدارة ولكن يظل الإنسان مسؤولاً عن مصيره ولكن بقدر. وهذه ليست دعوى للتخاذل و السلبية أو رفض لمعايير حكم المجتمع، ولكن هي محاولة لإزالة هذه الأثقال الوهمية التي تحملها معك.
يقول ابن تيمية رحمه الله : قيمة كل امرء ما يطلب. ولكن يجب أن تعلم أن من السنن الكونية هو عدم حصولك على ما تريد احيانا و عدم تحقيق كل أهدافك و خططك ، وذلك من رحمة الله بنا حتى لا يتأله أحد على الله و يعتقد أن أمره بيده متحولا إلى رجل خارق.
وكما قال حكيم : ليس كل شاطر و مجتهد واسع الرزق و ليس كل أحمق كسول و فقير، فلو حدث ذلك دل على أن العاقل يرزق نفسه و الأحمق حرم نفسه.
التعليقات
مزيدا من الإبداع 🙂