كيف أصبح إدريس هو هرمس وهو أخنوخ في نفس الوقت - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

كيف أصبح إدريس هو هرمس وهو أخنوخ في نفس الوقت

  نشر في 26 يوليوز 2021  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

إدريس نبي من أنبياء الله تعالى، بعثه الله إلى قومه، بشيراً ونذيراً، فصبروا على ما حمّلوا من أداء رسالة الله إلى خلقه، وما لحقهم في ذلك من النصب والأذى، ولم يذكر الله الكثير عن إدريس عليه السلام، وإنما ورد ذكره في إشارات عابرة.

قال تعالى: ﴿وَإِسۡمَـٰعِیلَ وَإِدۡرِیسَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ كُلࣱّ مِّنَ ٱلصَّـٰبِرِینَ وَأَدۡخَلۡنَـٰهُمۡ فِی رَحۡمَتِنَاۤۖ إِنَّهُم مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ﴾ [الأنبياء]

وذكر الله تبارك وتعالى فضيلة لإدريس، حيث قال تعالى: ﴿وَٱذۡكُرۡ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ إِدۡرِیسَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّیقࣰا نَّبِیࣰّا وَرَفَعۡنَـٰهُ مَكَانًا عَلِیًّا﴾ [مريم]

ولم يبيّن لنا الله ولا رسوله، ما التأويل الصحيح لقوله تعالى: ﴿وَرَفَعۡنَـٰهُ مَكَانًا عَلِیًّا﴾ وهل أراد بذلك علو المكان؟ أم أراد بذلك علوّ المكانة؟

والتأويل الصحيح، أنه إن كان المراد بذلك علو المكان، ففيه إشارة إلى أن الله تعالى رفع روح إدريس بعد موته، حتى أسكنها السماء الرابعة، وهذا ما نُصّ عليه في حديث المعراج، حيث قابل النبي صلى الله عليه وسلم روح إدريس في السماء الرابعة.

وأما روي عن كعب الأحبار – وهو من مسلمة يهود – أن إدريس رفع بجسده إلى السماء الرابعة، وقبضت روحه هناك، فقول لا دليل عليه، ولا أدري من أين جاء به كعب، وعلى العموم، فنحن نقطع أن إدريس مات كغيره من الأموات، ودفن جسده في الأرض، كسائر الأموات، فالله تعالى يقول: ﴿مِنۡهَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ وَفِیهَا نُعِیدُكُمۡ وَمِنۡهَا نُخۡرِجُكُمۡ تَارَةً أُخۡرَىٰ﴾ [طه]

حتى عيسى عليه السلام، الذي رفع بجسده وروحه، سوف يعود إلى الأرض، ليذوق الموت، كما ذاقه غيره، ويدفن جسده في الأرض، ليبعث منها مجدداً كغيره.

وأما إن كان المراد في الآية علوّ المكانة، فهذا يدل على أن إدريس لم يكن نبيّاً وحسب، فكل الأنبياء حازوا هذا الشرف العظيم، وكذلك ليس المراد أنه حاز مع الملك مع النبوة، فقد حازه أيضاً غيره من الأنبياء، ولكن فيه إشارة إلى أنه كان أكثر من ذلك، وهو ما لم يفصح عنه القرآن، ولا تكلم فيه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه ليس من المسائل التي كلّف النبي ببيانها كالعقائد والعبادات والمعاملات، إنما هو خبر، ويكفيك أن تعلم أن الله ميّزه وفضّله عن غيره بالأنبياء بأمر، ولا يهم أن تعرف هذا الأمر، لأنه ليس من الأمور التي تهمك في دينك.

نعود الآن إلى سؤالنا: وهو كيف أصبح إدريس هو هرمس؟ وكيف أصبح في نفس الوقت أخنوخ؟ وهل إدريس وهرمس وأخوخ شخص واحد كما يدعي قصّاص المسلمين؟ ومن هما هرمس وأخنوخ؟ وما علاقة إدريس بهما؟

فأما هرمس، ويطلق عليه أيضاً: هيرميز، وأرميس - يختلف النطق باختلاف الترجمة من اللاتينية - فهو تلميذ زردشت،  مؤسس الديانة الزردشتية، كان هرمس فيلسوفا ملحدا، والذي تبيّن لي من حاله، أن الرجل كان يقيم في بلاد فارس، ثم انتقل وسكن بابل فترة من الزمن، ثم انتقل عنها وسكن الإسكندرية، أيام حكم الرومان.

ولقد صار له جمهور وتلاميذ، وصارت له منزلة عظيمة عند الرومان، حتى رفعوه إلى مقام الألوهية، على عادتهم في تأليه عظمائهم.

ويزعم الرومان، أنه أول من اختراع الكتابة والموسيقى والتنجيم والأوزان والمقادير، وأما قصاص المسلمين، فقد أضافوا أكاذيب أخرى، فزعموا أنه أول من طرز الطرز وخاط بالإبرة، وركب الخيل .. الخ.

وحقيقة هرمس هذا، كما يظهر لي من حاله، أنه كان فيلسوفاً كاهناً منجّماً ساحراً، وأما ما أضيف له من الأعمال كاختراع الكتابة والتطريز والخياطة وركوب الخيل والموسيقى والأوزان والمقادير، فكلها من أوضاع القصّاص وتهويلاتهم، كعادتهم في التهويل من الشخصيّات التي يعظمونها.

وأما أخنوخ، فيزعم قصّاص اليهود، أنه أحد أجداد نوح عليه السلام، وهذا من موضوعاتهم، وأكاذيبهم، ولا يمكن إثبات صحة ذلك، بل إن سلاسل الأنساب المذكورة في كتب اليهود، كلها ملفقة موضوعة، ولا صحة لها، ولا يمكن التأكد من صحتها بأي حال من الأحوال، وإنما وضعها ولفقها قصّاص اليهود، ولا أدل على ذلك، من أنهم زعموا أن اسم والد إبراهيم: تارح، بينما يصرّح الله تعالى في القرآن العظيم، أن اسم والد إبراهيم، هو: آزر.

وكتب الله المنزلة، لم تأتي لتبيّن للناس أنسابهم، بل جاءت لتبين للناس ما يعتقدون وما يعملون وما يحلّون وما يحرّمون، كشأن القرآن العظيم.

ثم زعم قصّاص اليهود، أنه أوّل نبي بعثه الله إلى الخليقة بعد آدم عليه السلام، وأن الله رفعه بروحه وجسده، فهو حيّ في السماء! وأن الله أنذره بوقوع الطوفان قبل أن يولد حفيده نوح، حسب زعم اليهود، بل وأخبره عن خروج بني إسرائيل من مصر، وبقيام دولة الكلدان والفرس والرومان، وهذا أيضاً من موضوعاتهم وأكاذيبهم.

ثم وقف عند ذكر قيام الدولة الرومانية، لأن كاتب هذا السفر يتضح أنه كان حيّاً في زمن اليونان، ربما لو كان كاتبه عاش إلى زمن استرداد الفرس لممالكهم في إيران والعراق، ثم قيام الدولة الإسلامية، لكنا نقرأ في سفر أخنوخ، أنه تنبأ بقيام هذه الدول أيضاً!

وهذا السفر، الذي يسمونه سفر أخنوخ، كغيره من الأسفار اليهودية، موضوع مكذوب، ولا أدل على ذلك من أن السفر الذي ذكرت فيه أخبار أخنوخ، فيها من الأكاذيب ما لا يحتمله من ميّزه الله بالعقل.

فقد ورد فيه أن ماء المطر يأتي من السماء الأولى، وأن عصاة الملائكة تعذب في السماء الثانية، وهل في الملائكة عصاه! كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا، وأن الجنة والنار في السماء الثالثة، وأن الشمس والقمر في السماء الرابعة، وأن ملائكة حزينة تسكن السماء الخامسة وأنهم يغنون بالأبواق، فهل الملائكة تغني بالأبواق، أم تسبح الله وتمجده، وأن طائفة من الملائكة لما كثر نساء البشر في الأرض، أعجبهم حسنهن، فخالفوا أوامر الله، وهبطوا من السماء، وتزوجوا من بنات البشر، فولد لهم أبناء مشوهون، يريدون بذلك: الجنّ، وهل في الملائكة ذكور، حتى يمكنهم مواقعة النساء!!

إلى غير ذلك من الأكاذيب والخرافات، التي جاء النصّ من القرآن والسنة الصحيحة ببطلانه وتكذيبه. مما يدل على أن هذا السفر، ليس سوى كتابٍ قصصي، وضعه أحد وعاظ اليهود، ليرغب اليهود ويحذرهم، فاختار طريق الكذب، ليدفع الناس إلى الرغبة إلى الله والخوف منه، وما عند الله لا ينال بالكذب، والله طيّب لا يقبل إلا طيّبا، والكذب خبيث، وفي الصدق مندوحة عن ذلك.

والذي يميز أخنوخ في الأدبيات اليهودية، أنه ذو حكمة عظيمة، فهو يتلقى الحكمة والمعرفة من الله مباشرة!

والذي يظهر لي، أن أخنوخ، هو أحد أحبار اليهود الكبار، وعادة القصاص، يلحقون بأخبار الأشراف الكثير من الأكاذيب لأسباب شتّى، كحال كتاب سفر أخنوخ، والذين يظهر انهم إنما ألفوه كموعظة للشعب اليهودي، لينزجروا عن ارتكاب الشر، وعمل الخير، ولكن وسيلتهم كانت فاسدة وباطلة شرعاً.

وهنا نعلم، أنه ليس هناك أي علاقة بين هرمس تلميذ زردشت الفارسي، والذي عاش في عصور متأخرة، وبين أخنوخ كما يسميه اليهود، أو دنانخت، كما يسميه الصابئة، والذي يزعم قصّاص اليهود أنه أحد أجداد نوح عليه السلام.

ولكن يظهر لي أن بعض قصّاص اليهود، أخطأ، فزعم أن هرمس هو أخنوخ، لجهله بالمدة الزمنية التي عاش فيها هرمس، فلأنه لا يدري متى عاش هرمس، زعم أنه أخنوخ، والقاسم المشترك بين هرمس وأخنوخ، الذي جعل القاص يجعلهما شخص واحدا، هو ما اشتهر عن الاثنين من غزارة المعرفة، وما وصفا به من سعة الحكمة..

وأما القصاص المسلمين فقد نظروا إلى اسم ادريس، فخمنوا أن يكون إدريس لقب، وأنه لم يسمى بإدريس إلا من الدراسة، وما ينجم عن الدراسة من غزارة في المعرفة، وسعة الحكمة، لذلك رجحوا أن يكون إدريس هو هرمس، لذلك منحوه أعمال هرمس السكندري.

وفي نفس الوقت لما وجدوا اليهود يقولون في أسفارهم أن أخنوخ – وهو أحد أنبيائهم كما يزعمون – رفع بجسده وروحه إلى السماء، ورأوا أن الله يقول عن ادريس أنه رفعه مكاناً عليا، ووجدوا أن قصاص اليهود يزعمون أن أخنوخ رفع بجسده وروحه، خمنوا أن يكون الله أراد برفع مكان إدريس رفع جسده وروحه، ومن هنا رجحوا أن يكون إدريس هو أخنوخ المذكور في كتب اليهود.

ومن هنا جاء القول بأن إدريس هو هرمس وأنه في نفس الوقت أخنوخ، وهذا كله باطل وكلام فارغ.

ومثل هذا التلفيق، وقع ايضاً بين النبي إدريس والنبي إلياس، فلما رأى بعض المسلمين أن قصّاص اليهود يزعمون أن الياس، ويسمونه: إيليا، رفع إلى السماء بروحه وجسده، فهو حي في السماء، قالوا: بأن إدريس هو إيليا!! والحقيقة أن ادعاء قصاص اليهود أن أخنوخ وإيليا رفعا بروحيهما وجسديهما إلى السماء، إنما أخذوه عن النصارى، ثم عن المسلمين فيما بعد، من أن نبي الله عيسى عليه السلام رفع إلى السماء بروحه وجسده، ولكونهم لا يؤمنون برسالة عيسى، أرادوا أن يمنحوا أحد أنبيائهم المعترف بهم بينهم هذا الشرف، فتخبطوا، فأحيانا ينحلونه أخنوخ، وأحيانا ينحلونه إيليا.

فتبيّن مما سبق أن هرمس ليس أخنوخ، وأخنوخ ليس نبي الله إدريس، ونبي الله إدريس ليس هرمس، وبينت سابقاً كيف تم تلفيق هذا الادعاء.

وأما إدريس عليه السلام، فلا يعرف عنه أي شيء، إلا الإشارات اليسيرة الواردة عنه في القرآن، ولا يعرف متى بعث، ولا إلى أي أمة بعث، وحسبنا أنه نبي من أنبياء الله تعالى، وأن الله رفعه مكاناً عليّا، لخصيصة أختص بها.

وللتنبيه: فإن جميع الروايات التي رواها المفسرون والمؤرخون في شأن إدريس، لا تصح، فلم تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، بسند صحيح، بل ولا حتى بسند معلول، بل هي من تلفيقات وأوضاع القصّاص، التي ينحلونها الصحابة والتابعين أو تابعي التابعين، أو ينقلها الصحابة والتباعين وتابعي التابعين عن القصاص عن سلامة نيّة.



   نشر في 26 يوليوز 2021  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا