الليلة وأنا أتابع مسلسلي المفضّل وادي الذئاب الجزء التاسع الحلقة 16 بالضبط عندما ظهر المدعو "راسكون" وأفاق من غيبوبته بعد إصابته في رأسه، بمجرّد رؤيتي عادت بي الذاكرة إلى أيّام أليمة جداً، كان المشهد يشبه كلّ شيء عشته، فقط "راسكون" فتح عينه وخالي محمّد رحمه الله تعالى لم يفعل !
لا زلت أذكر كيف كنا نتسابق في الصباح الباكر إلى: "باب العناية المركزة" ليس لندخل إلى زيارة خالي فالوقت لم يحن بعد، ولكن لنقترب فقط من النافذة التي يرقد خالي قربها، لنسمع صوت آلة ترصد دقات القلب وهي تصدر ذلك الصوت (طيط، طيط، طيط)، ربّما هذا الصوت كان يبدو لنا عادياً بل مزعجاً قبل الحادثة، لكنه تحول إلى صوت يصنع البسمة على شفاهنا، ويبهج قلوبنا، فهو صوت الأمل والرجاء، لا زلت أذكر كيف كنت أسابق خالي عبد الكريم وأحمد وابن خالتي إلى ذلك المكان واسمع ذلك الصّوت وأتمالك نفسي وأجري نحوهم قائلاً: "خالي لا زال على قيد الحياة" طبعاً لا أحد يصدّق، لابدّ أن يذهب كلّ منهم برجله ويسمع الصّوت بنفسه، مع اقتراب وقت الزيارة نصطف كلّنا أمام النّافذة نساءاً ورجالاً، وننظر إلى بعضنا بعيون خائفة جداً، الكل يحاول أن يخفّف عن الآخر، لكن بدون جدوى، قد تصطنع ابتسامة لكن كيف تُخفي عيونك الغارقة في دموعها، لم نكن نتعب أبداً من الإنتظار، كان ذلك راحةً لنا، حيث كنا نبقى في المستشفى من السادسة صباحاً إلى العاشرة ليلاً ولو سمحوا لنا بالمبيت هناك لفعلنا، ولو أننا خارج الغرفة التي بها خالي رحمه الله كنا نحس وكأننا بجانبه، ما أن تدقّ السّاعة المحددّة للزيارة حتى ندخل زرافات ووحداناً، ونرى هل من تحسّن! لا يهم؛ المهم أن الآلة لا زالت تصدر صوتها منبأة أن قلب خالي لا زال ينبض، كنت أقترب منه كثيراً رغم أن الطبيب كان يحذرني، لم أكن أستطيع أبداً، كنت أقترب منه منادياً بصوت خافت: "خالي لا أريد شيئاً أريد فقط أن تفتح عينيك، خالي أنا عثمان، خالي .." لكنه لم يفعل ولو أني ناديته مراراً، فأصبّر نفسي و اقرأ عليه سورة الفاتحة وأقبل رجله الطّاهرة البيضاء وأخرج أبكي، ما ان أعتب الباب حتى أجد العشرات من القلوب المحروقة تبكي بكاءاً مريراً، هل تعرفون خالي عبد الكريم؟ لم ير أحدٌ في الدنيا دمعته، عرف بالشجاعة والصّبر منذ صغره، لكنه كان في المستشفى يبكي كطفل صغير فقد أمه، لا أحدثكم عن خالي أحمد بله أن احدثكم عن رشيد المسكين الذي فقد خاله وصديقه ورفيقه ..
*لا أستطيع الإكمال فاعذروني وأعدكم بكتابة الحادثة الأليمة كاملةً، أنا لم أرد أن أكتب، لكن الشّوق ولوعة الفراق اشتعلت بقلبي فلا أجد غير هذه الوسيلة (الكتابة) لأشفي غليلي، وأرجو من كلّ من قرأ هذه الأسطر أن يدعو مع خالي من قلبه، ويعتبره كوالده .
كتبه عثمان جمعون بعين دامعة وقلب نازف فجر يوم الجمعة 27 محرم 1436 هـ