الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، يميل غالبًا إلى مشاركة الآخرين واستطلاع رأيهم والتشاور معهم في معظم أموره وقبل أي قرار يقوم باتخاذه، ولذلك يلجأ كل منا إلى تكوين مجموعة منتقاة من المستشارين حوله من خاصته الذين يرضى عنهم ويتوافق معهم، يعرض عليهم كل ما يجد له من أمور ويأخذ برأيهم فيما يجب فعله وما لا يجب.
ولكن هناك مستشارًا خفيًا خاصًا لكل شخص، يُعرض عليه الأمر أولًا قبل باقي المستشارين ثم يُعرض عليه الأمر مرة أخرى بعدهم، بحيث تكون لهذا المستشار الكلمة الأولى والأخيرة، هذا المستشار وجوده ليس اختياريًا، وقراراته – في الغالب – تُنفذ دون مناقشة، ألا وهو الضمير.
كينونة الضمير
والضمير من الأشياء المختلف على كينونتها، فالبعض يراه نفس الإنسان المتحكمة ذاتها، والبعض يراه العقل الباطن الذي يصارح الإنسان بما يحاول الهروب منه، والبعض يراه ميزان الحس والوعي عند الإنسان لتمييز الصواب من الخطأ، والبعض يراه هو الدين الحقيقي للبشر.
ويبدو أن هذا الرأي الأخير هو الذى أدى ببعض رجال الدين المسلمين إلى إنكار وجود الضمير من الأساس، واعتباره وَهْمًا اخترعه الملحدون ليملؤوا به الفراغ الناشئ عن إنكارهم لله والدين، بل واعتبر بعضهم أن مجرد حديث المسلم عن الضمير واستناده إليه يشكك في عقيدته! وهذا – لعمري – من ضيق الأفق من كلا الطرفين.
فحتى مع وجود الله بأوامره ونواهيه، والرسل بهديهم وسننهم، والكتب السماوية بأحكامها وتشريعاتها، يبقى الإنسان في النهاية حرًا فيما يفعل، مطلقًا فيما يقر، مسئولًا عن فعله وقراره.
وهنا يظهر الضمير كأداة تطبيقية في يد الإنسان تساعده على اتخاذ القرار والإتيان بالفعل. فلا الضمير بديل للدين ولا الدين معارض للضمير، وإنما هما شيئان مختلفان تمامًا، ولا يقارنهما ببعضهما البعض إلا محدود فكر أو سيئ نية.
ويمكننا تمثيل الضمير بأنه جهاز كمبيوتر جبار، يقوم الإنسان بإمداده بالمعلومات والبيانات، فيقوم الضمير بمعالجتها وتحليلها وتنسيقها وتخزينها، ثم يقوم لاحقًا بالرد على الأسئلة التي تطرح عليه بناءً على تلك المعلومات. ولهذا فإن الضمير بالنسبة للإنسان هو المستشار الأمين الذي يصنعه الإنسان بيديه ويربيه على عينه ويصحبه طوال عمره فلا تخفى على الضمير شاردة ولا واردة من أمر صاحبه.
ومصادر المعلومات التي يُدخلها الإنسان إلى ضميره متعددة، فهي تأتي من كل ما يتعرض له الإنسان في حياته، تأتي من الدين والمجتمع، من البيت والشارع والصحبة، من الثقافة والاطلاع، من اليقين ومن الظن، تأتي مما يعلم الإنسان ومما لا يعلم، مما يدرك ومما يجهل. باختصار يتم تحليل الإنسان نفسه إلى معلومات تغذي الضمير، ولهذا فإن الثقة تكون مطلقة بين الإنسان وضميره.
وعلى الرغم من أن أجوبة الضمير على ما يطرحه صاحبه عليه من أمور تكون على شكل توصيات غير ملزمة، إلا أن الثقة المطلقة بين الإنسان وضميره تجعل الإنسان ينفذ تلك التوصيات بلا مناقشة ويعتبرها أوامر ملزمة له، فإذا ما اضطر الإنسان – نادرًا – إلى مخالفة هذه التوصيات دخل في حالة من الاضطراب والقلق النفسي وظل يتهم نفسه بأنه «خالف ضميره» ليل نهار حتى انقضاء الأمر الذي حدث فيه الخلاف وانقضاء أثره مهما طال به الأمد.
وفي بعض الحالات لا يجد الضمير لديه من المعلومات والمدخلات ما يمكِّنه من الإجابة على الأسئلة، فيرد على صاحبه بأنه «لا توجد بيانات كافية»، وتخرج توصياته على شكل توجيهات باستكمال الناقص من البيانات بطرق محددة، كسؤال فلان، أو الرجوع للعالم فلان، أو البحث في تجربة فلان المشابهة، أو القراءة في باب كذا وغيرها من دروب البحث واستقاء المعلومات. وهنا يلجأ الإنسان إلى باقي شبكة مستشاريه، فيستشيرهم ويأخذ منهم ما يستطيع أخذه من أجوبة، ثم يعود بها إلى ضميره مرة أخرى يمده بها ويطلب الجواب، فإذا خرج الجواب مرة أخرى بـ«لا توجد معلومات كافية» أعاد الإنسان الكرة، وهكذا حتى يحصل من ضميره على جواب ما فيبدأ في التنفيذ.
أي أن الضمير هو أصل سلوك الإنسان ومنبع قراراته ومحفز أقواله وأفعاله، ولا تستطيع باقي الأصول الأخرى المعروفة لتشكيل السلوك (دين، عرف، رغبة، رهبة… إلخ) أن تصل للإنسان بشكل مباشر، وإنما تمد الجسور بينها وبين ضميره محاولة التأثير عليه واستمالته إليها، فإذا نجحت في هذا أمسى الإنسان في قبضتها عبدًا يتوهم حريته ويتفاخر بها!
منظومة الضمير
والضمير في الحقيقة عبارة عن منظومة متكاملة تبدأ ببيانات أولية غاية في البساطة لتنتج في النهاية الإنسان المتفاعل، ذلك الكائن شديد التعقيد متباين الصفات والقدرات. ولكن لو نظرنا لتلك المنظومة المعقدة بشيء من التبسيط (المُخِلِّ في الحقيقة) وتخيلناها كخط إنتاج يبدأ بالمعلومة وينتهي بالإنسان لوجدناها تتكون في مجملها من عناصر خمسة وهي: المدخلات، الماكينة، المخرجات، الغلالة، الهوى. (بالطبع هذه مسميات افتراضية لا تستند إلى أساس علمي وهدفها فقط توصيف الفكرة).
العناصر الثلاثة الأولى – المدخلات، الماكينة، والمخرجات – هي العناصر الرئيسية والمباشرة في منظومة الضمير ككل، وكما قلنا سابقًا فإن المدخلات هي كل المعلومات التي تغذي الضمير والمخرجات هي إجابات الضمير على ما يطرح عليه من أسئلة، وما بين المدخلات والمخرجات تقع ماكينة الضمير.
ماكينة الضمير
وماكينة الضمير هي قلبه النابض وعقله المفكر ويده الفاعلة، هي حلقة الوصل بين مدخلاته ومخرجاته، هي المعادلة الكيميائية التي تحول الأكسجين والهيدروجين إلى ماء، هي ماكينة الغزل التي تحول القطن إلى خيط، أو ماكينة النسيج التي تحول الخيط إلى قماش.
ودرجة اتزان المعادلة ومدى انضباط الماكينة هو ما يحدد كفاءة الضمير، وكفاءة الضمير هي ما توجد علاقة طردية مباشرة بين المدخلات والمخرجات، فلا تكون المخرجات إلا في ذات سياق المدخلات، ويكون من السهل التنبؤ بمخرجات الضمير بالنظر إلى مدخلاته.
غلالة الضمير
وكما يهيئ الماء الجاري – لمدة طويلة – لنفسه مجرى ملائمًا، وكما يتعامل بالتدريج مع العوائق التي تعترض مجراه – إما بالنحت أو بالالتفاف – كذلك تفعل المدخلات لنفسها إذا استمرت لمدة مناسبة، فتكون تلك المدخلات أسهل في الدخول إلى الضمير من أقرانها، وينتقل الحال إلى ماكينة الضمير نفسها التي تتعامل مع تلك المدخلات لفترة طويلة، فتكون معالجتها لتلك المدخلات أكثر كفاءة من معالجة غيرها، وهو ما ينعكس في النهاية على المخرجات، فتكون بعض المخرجات أكثر وضوحًا وأفضل جودة وأسهل في الإنتاج من غيرها، ويصبح الضمير وكأنه ميال إلى الإجابة على الأسئلة بشكل معين وفي اتجاه محدد.
ويمكن تخيل هذا الميل على هيئة «غلالة» رقيقة تحيط بالضمير وتؤثر بشكل ما في طريقة إنتاجه للمخرجات. وهو ما يضفي على الضمير شخصية اعتبارية تميزه عن غيره من الضمائر التي تشترك معه في التصنيف، بحيث إذا تساوى ضميران في الكفاءة وأخذا نفس المدخلات فإن المخرجات لن تتماثل، وإنما ستختلف بمقدار اختلاف الغلالة لكل منهما.
الهوى
وكما أوضحنا من قبل، فإن الإنسان يُلزم نفسه – بكامل إرادته – باتباع ضميره الذي هو بالنسبة له مستشاره الأمين وكاتم أسراره ومستودع خفاياه، وذكرنا أن الإنسان قد يضطر أحيانًا إلى مخالفة توجيهات ضميره – إما بسبب ظروف خارجة عن إرادته أو بسبب هوى أو ميل شخصي لديه – وأن هذه المخالفة تُدخل صاحبها في حالة من الاضطراب والقلق النفسي يطلق عليها «تأنيب الضمير»، وأن هذه الحالة تستمر طالما استمر الأمر الذي حدثت فيه المخالفة أو استمر أثره.
ولأن حالة «تأنيب الضمير» ليست من الحالات الصحية أو المحببة للإنسان، فإنه يحاول تفاديها أو التقليل من التعرض لها قدر الإمكان. ولكن إذا تكررت تلك الحالة بدرجة تهدد السلام النفسي لدى صاحبها، فإنه يلجأ – كوسيلة دفاعية – إلى محاولة التأثير على ضميره وتغيير مخرجاته كي تتواءم مع هواه أو على الأقل تقل حدة التعارض بينهما. وهنا يدخل (الهوى) كعنصر فاعل مؤثر في منظومة الضمير.
ونستطيع أن نلخص آلية عمل منظومة الضمير، بأن «المدخلات» يتم معالجتها بواسطة «ماكينة» الضمير التي تأخذ في اعتبارها توصيات «غلالة الضمير» وتوجيهات «هوى الإنسان» لتنتج في النهاية المخرجات التي تحدد فعل الإنسان وسلوكه.
أصناف الضمير
وحيث إن كل إنسان منوط به صنع ضميره الخاص، وحيث إنه لا تطابق بين إنسان وآخر، فلا تطابق بين ضمير وآخر، ولكن يتشابه البعض ويتآلف البعض ويتنافر البعض، تمامًا كما البشر.
وفي مجتمعنا، نستطيع أن نميز هذه الضمائر – أو غالبيتها – في أصناف ثلاثة، بحيث تشكل مجتمعة الضمير الجمعي لهذا المجتمع. وقد حاولت أن أوجد تسمية ملائمة لكل صنف تعبر عن سماته وسلوكه والآثار المترتبة عليهما بكلمات من رحم المجتمع ذاته، وقد يتفق البعض أو يختلف مع هذه التسميات، بل وقد يقبلها البعض أو يرفضها، فلكل الحق فيما يرى. والأصناف الثلاثة هي: الضمير اليمين، الضمير الشمال، وضمير القطيع.
الضمير اليمين
الصنف الأول من صنوف الضمير هو «الضمير اليمين». وهذا الصنف طغت على مدخلاته العناصر المحمودة في سياقها، فيأخذ الإنسان من كل ما يتعرض له في حياته أفضل ما فيها من قيم وآراء وأحكام وشرائع. ثم تلج المدخلات إلى ماكينة ضمير قويمة صحيحة، معادلتها متزنة وأجزاؤها متناسقة متكاملة، فتنتج مخرجات محمودة من نفس سياق المدخلات.
فإن غلب على المدخلات الدين تكون المخرجات التزامًا بالأوامر والنواهي والأحكام والشرائع وتحري الحلال من الحرام، وإن غلب على المدخلات القيم والمبادئ تكون المخرجات هي السمو الإنساني، وإن غلب العرف والمجتمع تكون المخرجات تحري الصواب من الخطأ، وإن غلب العلم تكون المخرجات تحري الأوفق والأنفع، وإن اجتمعت جميعها أو بعضها تكون المخرجات من كل أو بعض ما سبق كل مخرج حسب نسبة مدخله.
ولو استمرت ذات المدخلات تستمر ذات المخرجات، فيتولد في غلالة الضمير ميل في ذات الاتجاه يجعله يقاوم المخرجات الناتجة عن بعض المدخلات المذمومة التي تأتي بين الحين والآخر. وبتعامل الإنسان مع تلك المخرجات فترة مناسبة يكتسب هواه ميلًا إليها بالدرجة التي تجعله يقاوم دخول المدخلات المذمومة التي قد تهدد إنتاج تلك المخرجات.
فتكون لدينا مدخلات محمودة تتم معالجتها في ماكينة صحيحة فتنتج مخرجات محمودة تعززها غلالة ضمير تقاوم إنتاج مخرجات مذمومة وشخصية إنسان تقاوم دخول المدخلات المذمومة.
الضمير الشمال
أما الصنف الثاني من صنوف الضمير فهو «الضمير الشمال». وهذا الصنف طغت على مدخلاته العناصر المذمومة في سياقها، فيأخذ الإنسان من كل ما يتعرض له في حياته أسوأ ما فيها من قيم وآراء وأحكام وشرائع. ثم تلج تلك المدخلات إلى ماكينة ضمير قويمة صحيحة، معادلتها متزنة وأجزاؤها متناسقة متكاملة، فتنتج مخرجات مذمومة من نفس سياق المدخلات.
فإن غلب على المدخلات الشهوة تكون المخرجات زنى، وإن غلب حب المال تكون المخرجات سرقة، وإن غلب حب الجاه والسطوة تكون المخرجات طغيانًا وبلطجة، وإن غلب الجهل تكون المخرجات التماس الأضل والأسوأ، وإن اجتمعت جميعها أو بعضها تكون المخرجات من كل أو بعض ما سبق كل مخرج حسب نسبة مدخله.
ولو استمرت ذات المدخلات تستمر ذات المخرجات، فيتولد في غلالة الضمير ميل في ذات الاتجاه يجعله يقاوم المخرجات الناتجة عن بعض المدخلات المحمودة التي تأتي بين الحين والآخر. وبتعامل الإنسان مع تلك المخرجات فترة مناسبة يكتسب هواه ميلًا إليها بالدرجة التي تجعله يقاوم دخول المدخلات المحمودة التي قد تهدد إنتاج تلك المخرجات.
فتكون لدينا مدخلات مذمومة تتم معالجتها في ماكينة صحيحة فتنتج مخرجات مذمومة تعززها غلالة ضمير تقاوم إنتاج المخرجات المحمودة وشخصية إنسان تقاوم دخول المدخلات المحمودة.
بين اليمين والشمال
وبمقارنة هذين الصنفين من صنوف الضمير نجد أنهما يكادان يتطابقان في آلية عمل منظومة الضمير على الرغم من الهوة الشاسعة بين نتاج كل منهما!
فكلاهما يمتلك ماكينة ضمير صحيحة متزنة تقف على الحياد تمامًا بين المدخلات والمخرجات، بحيث إننا لو بدلنا ماكينتي ضميرين أحدهما «يمين» والآخر «شمال» لما اختلف نتاج المنظومة لأي منهما. ولكن العنصر الفعال لكل منهما هو المدخلات. فبحياد ماكينة الضمير تكون المخرجات نتاجًا مباشرًا للمدخلات، وتتولد غلالة الضمير لتعزز تلك المخرجات فتكون هي أيضًا نتاجًا – غير مباشر – للمدخلات، ويتشكل هوى الإنسان ليقاوم المدخلات المعاكسة فيكون هو أيضًا نتاجًا للمدخلات.
تحول الضمير
أي إن تحويل منظومة ضمير من أحد الصنفين إلى الآخر لا يحتاج إلا إلى تغيير المدخلات، فإذا ما تم تغيير المدخلات أصبح تحول الضمير أمرًا مفروغًا منه ولا جدال فيه.
والمدخلات – كما أوضحنا – تقع تحت الحماية المباشرة للهوى، فإذا ما استطاع مدخل مغاير أن يلج إلى ماكينة الضمير – سواء تم ذلك بشكل مقصود أو غير مقصود – متجاوزًا الهوى، فإن ماكينة الضمير – الصحيحة المتزنة – تقوم بإنتاج المخرج المتسق معه، وإذا ما بلغ المدخل درجة مناسبة استطاع المخرج المنبثق عنه أن يتغلب على غلالة الضمير ماسخًا بعض سماتها ويخرج، فإذا ما خرج أخذ مكانه في الهوى وشكل جزءًا منه بالدرجة التي تقلل ممانعة الهوى لدخول ذات المدخل مرة أخرى وأخرى وأخرى، في دائرة إذا ما قدر لها أن تستمر – سواء بقصد أو بدون قصد – يتحول الضمير.
وظاهرة تحول الضمير قد تأخذ شكلًا متسلسلًا منسابًا يستمر شهورًا أو أعوامًا يتحرك خلالها الضمير بالتدريج على الخط الواصل بين اليمين واليسار، وقد تأخذ شكل الفجأة فينقلب الضمير كليًا من صنف إلى آخر بين عشية وضحاها. وما يحدد شكل التحول هو طبيعة المُدخل الذي سيقوم عليه التحول، وملابسات دخوله إلى الضمير، والكثافة التي يدخل بها.
ضمير القطيع
أما الصنف الثالث من صنوف الضمير، «ضمير القطيع»، فهو يحتاج إلى إفراد مساحة كاملة للحديث عنه لا يتسع المقام لها هنا. وأرجو أن أتمكن من تناوله في مقام مستقل في وقت لاحق.
هذا المقال تم نشره على موقع ساسة ب